قالوا

 يعيش الجميع اليوم عصر الثورة المعلوماتية التي تنتشر فيها الأفكار و المعلومات بسرعة و سهولة من و إلى أي بقعة من بقاع العالم، و لكن ما فائدة هذا الكم الهائل من المعلومات في ظل هيمنة رأي واحد و فلسفة واحدة على نوعية هذه المعلومات، و أعني بذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي تعكس بمثل هذه الأفعال حقيقة العالم الذي تمثله و تريد في نفس الوقت.

الأستاذ علي السكري
من الذي صام؟ الدرازيون أم النعيميون؟   |    في ذمة الله الشَّابة زهراء عبدالله ميرزا صالح   |   ذمة الله تعالى الحاجة جميلة حسن عبدالله    |   على السرير الأبيض الحاج خليل إبراهيم البزاز أبو منير    |   برنامج مأتم الجنوبي في ذكرى ولادة السيدة الزهراء    |   في ذمة الله حرم الحاج عبدالله سلمان العفو (أم ياسر)   |    في ذمة الله الطفلة زهراء جابر جاسم عباس   |   نبارك للأخ الطالب محمد حسن علي ثابت حصوله على الماجستير في إدارة الأعمال    |   رُزِقَ الأخ عبدالله علي آل رحمة || كوثر || 12/12/2021   |   دورة تغسيل الموتى    |   
 
 الصفحة الرئيسية
 نبذة تاريخية
 أنشطة وفعاليات
 مقالات
 تعازي
 شخصيات
 أخبار الأهالي
 إعلانات
 النعيم الرياضي
 تغطيات صحفية
 ملف خاص
 خدمات الشبكة
 المكتبة الصوتية
 معرض الصور
 البث المباشر
 التقويم الشهري
 أرسل خبراً
 اتصل بنا
 
مقالاتالأستاذ كريم المحروس
 
مناوشات بحرانية لعشاق الكشف والشهود في مناهج الحوزة الدينية...(2-5) القدسية والأنسنة في مناهج الدراسات الدينية
الأستاذ كريم عيسى المحروس - 2006/03/28 - [الزيارات : 6209]

مناوشات بحرانية لعشاق الكشف والشهود في مناهج الحوزة الدينية

(2-5) القدسية والأنسنة في مناهج الدراسات الدينية

 

قسمت المادة المتداولة في المؤسسة التعليمية الدينية إلى صنفين من العلوم كان لها أثر كبير في وعي المسلمين وتوسيع مداركهم الإنسانية الوجدانية في مراحل نمو دور مدارس المؤسسة التعليمية الدينية ، "صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه"1.

 

فالعلوم النقلية هي علوم موروثة مصدرها الوحي الإلهي وتتداول في المؤسسة التعليمية الدينية كمادة أساسية ، وتضم أهم مصدرين تشريعين هما: القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، ويتعلق بشؤونهما حمل الرواية ودراستها وتدوينها وتصحيحها أو تجريحها سندا ودلالة إلى جانب التفسير والاجتهاد لاستنباط أحكام الفقه والشرح والعرض في السير . وتصور بأنها "العلوم النقلية الوضعية وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول "2. 

 

وقد حظيت هذه العلوم بالنصيب الأساسي الأكبر في مناهج التدريس في المؤسسة التعليمية الدينية بشكل موسع بعد عهد التشريع الذي انتهى عند أتباع اتجاه الخلافة بوفاة الرسول الأكرم )صلى الله عليه وآله وسلم( حيث بدأ شعور يسري بوجوب كتابة القران والسنة وجمعهما على منهج الخلفاء ، ومن ثم دراسة أحكامهما والاجتهاد فيهما . بينما أقفل عهد التشريع بصورة مختلفة عند اتجاه التشيع بعد شهادة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري )عليه السلام( ، وبداية عهد الغيبة الصغرى للإمام الثاني عشر المهدي بن الحسن العسكري )عليه السلام( . 

 

وفي ذلك كتبت الكثير من مؤلفات التفسير والحديث وبمستويات متفاوتة من حيث وثاقتها وعمقها فيما عرف بعد ذلك بعلم التعديل والتجريح في السند والدلالة ، ونجم عن ذلك مسيرة علمية طويلة عمادها التحقيق والبحث والدراسة في هذه المؤلفات وتأسيس علوم الفقه والأصول والتفسير والسيرة والحديث والرجال . واتخذ التحقيق والدراسة والنقل في هذا المضمار طرقا في بدايات نشوء المؤسسة التعليمية الدينية لازال بعضها دارجا في منهج الدراسات الدينية .  "ويحسن أن نشير إلى طرق التحميل إيضاحا لبعض أنواع التعليم في تلك الحضارة الواسعة . لقد فاز علماء الحديث ثمانية طرق . وهي السماع والعرض والإجازة والمناولة والمكاتبة والأعلام والوصية والوجادة . وغدت هذه الطرق تشمل فضلا عن الحديث تحمل أكثر العلوم النقلية كالفقه وأصول الفقه والتفسير . فالسماع أن يقرأ الشيخ الحديث من حفظه أو من كتاب ، والحضور يسمعون لفظه سواء كان للإملاء أم لغيره .. والعرض هو عرض القراءة ، وذلك أن المريد يعرض على العالم ما يقرؤه ، إما من حفظه وإما من كتاب مقابل مصحح... فالسماع من لفظ العالم ، والقراءة بلفظ الطالب المتحمل أو غيره بحضرة العالم . وإما الإجازة فهي أدق من ذلك . وهي إذن العالم لشخص أو أكثر برواية بعض مروياته أو كتبه لفظا وكتابة . والإجازة أنواع . وأعلى أشكالها أن يحمل العالم كتابا من كتبه ويقول للطالب ، وقد عرف إتقانه : أجيز لك روايتها عني . وهذه إجازة معيّن وهو الشيخ لمعين وهو الطالب في معين وهو الكتاب أو الكتب"3.

 

وعلى ذلك ، غلبت كثرة المؤلفات الفقهية في مناهج الدراسات الدينية وذلك للحاجة ولضرورة الاستفادة منها في معرفة الأحكام الشرعية المستخلصة من النص الشرعي ، بينما صنفت علوم أخرى كمادة مكملة ومساهمة في تطوير هذا العلم . ويعد الفقه أكثرها تميزا ، وهو "علم إسلامي خالص ، حيث لم يؤثر أنه تأثر بتجارب علمية سابقة ،  أو أعمال تقدمته "4،  لكونه جاء في إطار علوم شريعة جديدة لم تكن معروفة في الجزيرة العربية ، ونما وتطور تبعا للحاجة اليومية للناس واستعمالاتهم للنعم وتسخيرها في جميع مجالات حياتهم . 

 

وأسفر عن تطور علم الفقه ومؤلفاته علم أصول الفقه الذي جمع القواعد الفقهية مع تفاوت في المرحلة الزمنية التي ولد فيها هذا العلم تبعا لفترة انتهاء عهد التشريع عند عالمي اتجاه التشيع واتجاه الخلافة . ويعتبر هذا العلم علما منبثقا عن علم الفقه ، وهو "من أهم العلوم الشرعية التي وضعها العلماء المسلمون دون أن يتأثروا بتجارب مماثلة سابقة ، ودون أن يحذوا حذو محاولات متقدمة . وهو علم إسلامي خالص أيضا كما الفقه ، لأنه نشأ من بين النصوص الفقهية"5 ، وهو ما يشير إلى الذهنية الإسلامية المتطورة في كشف القواعد وجمعها ضمن علم عقلي نقلي أسس جديدا .

ربما كان علم الفقه أكثر العلوم تطورا وأكثرها تأثيرا في حياة المجتمع ، وفاق بذلك بقية المواد النقلية كالتفسير الذي جمدت علومه في المؤسسة التعليمية على تاريخ جمع القرآن ورجال ومراحل تدوينه وعلى الحساب الرياضي في مضمون القرآن ومنهجه في العرض وعلى القراءات السبع والبسملات وعلى قصص وظروف الوحي ونزول الآيات وعلى الهوية المكية والمدنية وعلى الناسخ والمنسوخ وعلى اللغة والآداب وما أشبه ، أي أن تفسير القرآن اتجه إلى موضوعات ذاتية متعلقة بما بين دفتي القرآن بعيدا عن الواقع الإنساني ووعيه الشامل لنظم الفكر والسلوك ، على خلاف وظيفة القرآن التي عرفته ككتاب حياة . 

 

وإذا ما رصدنا حركة التطور في الفقه في المؤسسة التعليمية الدينية نجد أن علم الفقه كان متحركا بشكل واسع في مجالات العبادات حتى أنه غار في مجالات محتملة متصورة في المستقبل ، بينما كان هناك شبه توقف في مجالات المعاملات كالقروض والمضاربة والشراكة والمزارعة والوكالة والهبات والحجر والرهن الأطعمة والأشربة وعقود الدول وما أشبه ، وكانت جل معاملات الدولة تجرى بشكل منفصل عن المؤسسة التعليمية بلا أي تأثير متبادل ، وكانت القوانين الدولية في شأن المعاملات هي الحاكمة حتى بدء عهد النهضة حيث وضعت نظريات ومؤلفات إسلامية جديدة في الاقتصاد والسياسية والاجتماعي ونظم الدولة ومنشئها ، فاعتمدت المؤسسة التعليمية بعض هذه المؤلفات كمادة دراسية مضافة للمنهج.

 

وعلى ذلك أيضا جرى في شأن علوم الحديث والسيرة ، حيث تطور علم الحديث والرجال ونمت أساليب الوثاقة والجرح والتعديل ، لكن الأسس الأولى المفترض إتباعها في ذلك كانت محل خلاف ، خصوصا في مسألة تنزيه وتعديل الصحابة أو تجريحهم ، كما أن مسألة دلالة الأحاديث أيضا ظلت خاضعة لقيود كانت بحاجة إلى إصلاح وتطوير لأن الدلالات الخاطئة التي توصلت إليها بعض الجهات الدينية المتزمتة والمتطرفة كانت سببا مباشر في التناحر بين المذاهب والاتجاهات الدينية.

 

وإما في مسألة السيرة النبوية فقد كادت أن تفقد أثرها في الحياة اليومية للناس ، بل أن هناك من المختصين من ظل يجهل أكثر ما في السيرة  أو حقائقها . وإما كتبها وكتابتها فهي بحاجة إلى تحقيق وإصلاح وتجديد وتنقية من كل ما علق بها من باطل دول بني أمية ودولة بني العباس ومن كان على هداهم . فهذان العلمان (الحديث والسيرة) هما من أكثر العلوم الدينية التي لعبت فيها أيدي الوضع والاختلاق ، وبحاجة إلى دور مؤسسي يخضعهما لنظر ووعي يحدد بموجبهما رؤى جديدة للمسلمين مميزة للعلم والمعرفة حق تمييز.

 

وأما العلوم العقلية فهي تشتمل على مادة العقائد أو ما يعرف بأصول الدين إضافة إلى أصول الفقه والحكمة والفلسفة والمنطق والإلهيات ، وأضافت إليها بعض المدارس الدينية مواد التصوف والتصوف الفلسفي ، والرياضيات كالهندسة والحساب والفلك ، بالإضافة إلى الطبيعيات كالكيمياء والفيزياء والحيوان والطب، والإنسانيات كالتاريخ والجغرافيا والاجتماع والنفس واللغة وآدابها . وفصلت بعض المدارس بعض العلوم العقلية كأصول الفقه وأصول الدين والفلسفة والتصوف مثلا ووضعتها في خانة العلوم الجامعة بين (النقلية والعقلية) .  وتوصف العلوم العقلية بأنها "هي العلوم الحكمية الفلسفية وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها وأنحاء براهينها ووجوه تعليمها حتى يقفه نظره ويحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر"6.

 

وقد استفاد المسلمون من العلوم العقلية الوافدة عن الحضارات الأخرى عن طريق الترجمة من اليونانية بواسطة السريانية والفارسية إلى العربية بعد محاولاتهم الحثيثة للإطلاع على علوم تلك الحضارات "على أن دراسة العلوم الفلسفية والمنطق والكلام قسمة مألوفة في منهج المسلمين التعليمي والتربوي منذ النصف الثاني من القرن الأول الهجري ، ولقد تأكدت هذه القسمة في القرن الثاني ، وخاصة بعد ترجمة العلوم الفلسفية في عصر المأمون (170-218م ، 786-833م)"7. 

 

ولم يكن إطلاع المسلمين على العلوم العقلية إطلاعا جامدا دون معالجة أو تمحيص وإمعان نظر وتحقيق ، ذلك أن بعض تلك العلوم وخاصة الأوروبية منها كانت جامدة على منهج أرسطو في الاستنباط القائم على استخراج النتائج من المقدمات والتزام الحدود والرسوم في التعريف والقياس والاستنباط والتمثيل في الاستدلال . "وقد عدل فيه المناطقة المسلمون ، فالتزموا في التعريف ما سموه بـ (شرح الاسم) ، وابتعدوا عن الأخذ بالحد والرسم ، وعللوا هذا بعدم وجود فصول لحقائق الأشياء يمكن الوصول إليها ومعرفتها . كما أضافوا إلى مادة الاستقراء في كثير من مؤلفات المنطق الحديثة ، الطرق الخمس التي وضعها (جون ستيورات مل) ، والتي تسمى (طرق الاستقراء) و (قوانين الاستقراء) ، وموضوعات أخرى رأوا من اللازم إضافتها .

 

ومنذ أن ترجم هذا المنطق من اليونانية إلى العربية عن طريق السريانية والفارسية ، كان ولازال هو المنهج المعتمد في الدراسات الإسلامية ، وبخاصة الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام وأصول الفقه . ومد رواقه أيضا على الدراسات اللغوية العربية فاعتمد إلى حد بعيد في علم النحو وعلوم البلاغة . وهو المنهج المعتمد حاليا في الدرس الفلسفي والدرس الكلامي والدرس الأصولي في الحوزات العلمية (مركز الدراسات الدينية) عند الشيعة الإمامية ،  وكذلك في الحوزات العلمية السنية في مثل أفغانستان وباكستان وهندستان واليمن ومصر ودول المغرب العربي"8. وأن هناك الكثير من رجال العلم القدماء من المسلمين انبهروا بالفلسفة اليونانية كالكندي والفارابي وابن رشد وغيرهم ، وراح بعضهم إلى النظر في العلوم الإسلامية النقلية ونصوصها بعين فلسفية ومقولات فكرية يونانية صرفة ، فأنتجوا نظريات في مجالات الاجتماع اعتمادا على ألفاظ ومفاهيم فلسفية يونانية . وأرجع بعض المحققين علوم المسلمين في المجال النقلي إلى أسس ومناهج يونانية فلسفية ليؤكد على تأييد مذهبه الفلسفي أو الصوفي ، بينما ذهبت أكثر التحقيقات والدراسات إلى نقض هذا المذهب ودعت إلى تجريد العلوم النقلية والعقلية الإسلامية من أي اثر يوناني فكري فلسفي أو صوفي. وهناك من المحققين من اعترف بالالتقاط الفلسفي عن اليونان ولكنه استحسنه واستعمله في بناء قاعدته الفكرية الفلسفية.

وقد ظهر من خلال الحياة العلمية في المؤسسة التعليمية الدينية عند اتجاهي الخلافة والتشيع ، أن بعض العلوم العقلية قد تداخلت في العلوم النقلية وفرضت نتاج العقل على النقل أو العكس كما هو الحال في أصول الفقه ، كما تداخلت بعض العلوم في بعضها كما هو الحال في أصول الدين والتصوف والفلسفة والحكمة . ولذلك تشكلت في المؤسسة التعليمية الدينية مخاطر على العلوم الأصيلة وعلى فكر وسلوك ووجدان المنتسبين إليها ، خصوصا في مجال مبحث التوحيد . فنشأت عن ذلك فرق دينية لها عقائدها وفلسفاتها وتصوفها ، ولها نزعاتها وتصوراتها الخاصة في تنزيه الإله بين التجسيم والتشبيه والاتحاد والحلول والوحدة الوجودية ، ما أدى إلى الكثير من النزاعات والمشكلات التي استنزفت الطاقات البشرية والاقتصادية والاجتماعية في تطرف سلفي غريب الأطوار أو تطرف فكري مثير للشكوك .

 

والى جانب ذلك ، أسس متبنو بعض العلوم النقلية والعقلية طرقا كثيرة مفصلة في كيفية تحمل وتلقي تلك العلوم . فمنذ القرن الثاني للهجرة ألفت الكثير من الكتب المهمة الكاشفة عن علاقة الطالب بالأستاذ في حال الاستعداد لتلقي مثل هذه العلوم ، وسميت بالآداب ، وكان من بينها: كتاب (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد) لزين الدين بن علي العاملي الملقب بالشهيد الثاني (966هـ ) ، وكتاب (الدر النضيد في آداب المفيد والمستفيد) لبدر الدين الغزي (984هـ) ، وكتاب (آداب المتعلمين) لنصير الدين الطوسي (672هـ) ، وكتاب (آداب المعلمين) لمحمد بن سحنون (256هـ) ، وكتاب (تذكرة السامع والمتكلم في آداب العلم أو المتعلم) لبدر الدين ابن جماعة الكناني (733هـ) .

 

وقد فصلت هذه المؤلفات الشيء الكثير والمنظم في كيفية سير الحياة العلمية في المؤسسة التعليمية الدينية وتقاليد النظر والتحقيق والبحث والاجتهاد فضلا عن كيفية الاستفادة من الأستاذ ، وأخلاق الكسب العلمي ، وطرق التعاطي مع المادة العلمية ، وأحوال حلقات الدراسة وطقوس حضورها ، وفن التدريس والدراسة والاستعداد لهما.

 

وربما كانت أكثر الكتب المتخصصة دقة وتفصيلا في شأن العلاقة المتبادلة بين الطالب ومدرسيه ، هو كتاب (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد) حيث أولى الشهيد الثاني رعاية واهتماما للعلاقة بين الأستاذ والطالب وما يتصل بينهما من اشتراك في كيفية تداول المادة وكسبها والبحث فيها . ففي آداب الأستاذ قسم الكتاب الآداب إلى آداب تخص الأستاذ ذاته ، وآداب علاقته مع طلابه ، وآداب تخص حلقة الدرس . وإما آداب الطالب فهي مقسمة كذلك إلى آدابه مع نفسه وآدابه مع أستاذه وآدابه مع حلقة الدرس . وأما الآداب التي يشترك فيها الطالب مع المدرس فهي: الإخلاص وبذل الجهد في كسب العلم وتعليمه ، والأخلاق المتبادلة ، واحترام مادة العلم ، والاستمرار في التعلم والتعليم ودوام العمل بالعلم ، وتجنب الجدال والمراء وغيره . 

 

ولم يغفل علماء المؤسسة التعليمية الدينية التفاصيل الدقيقة في مجال حفظ العلم وتقييده في الذهن ، وفنون الكتابة والتأليف وطرقهما حتى انتشرت مصطلحات مميزة ومصنفة للمؤلفات ، كمصطلح (المبسوط) و(الإملاء) و(المختصر) و(الحاشية) و(الشرح) و(التعليق) و(الفهرست) و(الكليات) و(المبادئ) و(المعاجم) و(المقباس) و(الوجيزة) و(التنقيح) و(المنظومة) وغيرها.

 

وقد تراجعت العلوم العقلية كثيرا خلال حكم السلطنة العثمانية تحت ضغط قيود الكثير من دوائر المؤسسة الدينية الخاضعة لهيمنة شيوخ السلطنة الرسميين الذين حرّموا أو منعوا أكثر العلوم العقلية جريا على منهج الشيخ الغزالي الصوفي الذي ناهض الفلسفة على وجه التحديد . وقد ظلت المؤسسة التعليمية الدينية على اتجاه التشيع محافظة على استقلالها في رعاية بعض العلوم العقلية وتجنب الاستجابة لتحولات السلطنة العثمانية في شأن أدائها التعليمي ، على عكس الكثير من مؤسسات اتجاه الخلافة "ودون أن نقلل من اهتمام إخوتنا ونحن نعترف بأنهم ظلوا الممثلين لاهتمام التيار العقلاني الإسلامي بهذه الدراسات"9 .

 

وقد حاول شيخ السلطنة العثمانية أبو الهدى الصيادي ( 1849-1909م) النيل من اتجاه التشيع وصوره اتجاها دينيا يتعاطى مع بعض العلوم العقلية إلى جانب علومه النقلية السائدة في مؤسسته التعليمية ، فاصطنع العقبات والموانع أمام مسيرة السيد جمال الأفغاني وتصدى له وقاومه بحجة تشيعه وتعاطيه العلوم العقلية . فقد كانت دراسة الأفغاني للعلوم العقلية في كل من العراق والهند على غير منهج السلطنة العثمانية التي كانت تميل إلى فكر التصوف ، أحد أسباب بلوغه هذه المرتبة  ، وبذلك استطاع أن يتحرر من قيود المنهج العثماني التقليدي الجامد " فلقد كان طرازا من الرجال لا يمكن فهمهم حق الفهم إلا إذا نحن تخيلنا الصورة التي يمكن أن يكون عليها مفكر عبقري عملاق جمع في عقله ما بين الحكمة الفلسفية والإيمان - على طريقة الفلاسفة - بجوهريات الإسلام وحقائقه الأولية ، في صورتها النقية المبرأة من الخرافات والإضافات "10

 

- تحديات المنهج ورموزه 

 

استمرت المؤسسة التعليمية الدينية في التدريس وفق المنهج التقليدي المتقيد بالعرض والشرح التفصيلي الممل لمختصرات المادة وفك عباراتها وألفاظها ومصطلحاتها ومحاكمة مضامينها ومقاصدها اللغوية . ولكن هذا الأسلوب التعليمي القديم لا يخلو من بعض الإيجابيات من نحو: "غزارة المادة العلمية والتعمق في قضاياها ، فيأتي المدرس فيدرس الموضوع فينزل في أعماق الأرض ويرتفع إلى عنان السماء في كل شيء ، لماذا وكيف والأبعاد المتعلقة به والجوانب والاحتمالات ، فيحاول أن يعطي غزارة وعمق أكثر مما يقتضيه الموضوع نفسه ، ومعرفة الجذور والأغصان كلها بشجرة العلم "11.

 

ومع مثل هذه الأساليب التقليدية القديمة كان على المدرس أن يتميز بحصيلة علمية واسعة جدا تمكنه من إدراك ومعرفة العلوم المختلفة كالفقه والتفسير والدراية والحديث والمنطق والحكمة وعلوم اللغة والرياضيات والطبيعيات والإنسانيات وغيرها من العلوم النقلية والعقلية ، ما يؤكد على أهمية دور الذاكرة والحفظ ، ويزيد من حصيلة الطالب والمدرس العلمية ويرفع من قدرتهما معا على " تبين مواطن الضعف في المادة العلمية ... ومعالجتها من خلال منهج : إن قلت: قلت ،  وان قلت: قلت"12.

 

وهنا مثال واحد على طريقة التدريس كانت متبعة في حوزات العراق إلى عهد قريب: "فإذا أراد الأستاذ أن يثبت كروية الأرض تساءل: هي كروية أو مسطحة ؟ . ثم يقول: ذهب العلماء القدماء إلى أنها مسطحة ، وقال الجدد: إنها كروية ، واستدلوا بأن الإنسان إذا سار من نقطة معينة وواصل السير في خط مستقيم ينتهي إلى المكان الذي ابتدأ منه ، ثم يعقب الأستاذ - من عنده - بأن هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأرض كروية لسبب من الأسباب كما هي سني التطور . 

 

ويجيب – من عنده - بأن كروية الأرض لا تحتاج إلى الاستدلال بعد أن اثبت العلم أن الأصل في كل جرم أن يوجد أول ما يوجد كروية الشكل ،  وليس من شك أن الأرض جرم فهي إذن كروية ، ومن قال بهذا لا يطالب بالبينة لأن قوله موافق للأصل ،  على أن الوجدان يؤيد هذا ويعززه ، وعليه فالقول المعاكس لا يبتنى على أساس . وهكذا تدرس جميع القضايا والمسائل"13. 

 

فهذا الأسلوب التعليمي الذي تميزت به المؤسسة التعليمية في العراق له الكثير من المحاسن أتي على رأسها فن التوسع والتمكن من العديد من المعارف المختلفة ، وفن الحوار والنقاش والجدل . وعلى ذلك يتخرج الطالب مدعم بالمادة المناسبة المحيطة بأبعاد علمية متنوعة ، فيزيد من ثقة الطالب بنفسه وبعلومه المختلفة ويساهم مساهمة كبيرة في نمو الذكاء والحنكة أمام حجج الآخرين وآرائهم وتفسيراتهم وتأويلاتهم واعتراضاتهم ، كما يساهم في نمو مقدرة الطالب على دراسة العلوم الأخرى غير المقررة في المؤسسة التعليمية والتمكن منها والاستفادة منها ونقدها في حال خلافها مع المعتقد والفكر الأصيل ، فتتبلور شخصيته وينمو حسه الاستقرائي البحثي في حال اختلاطه بنظرائه وزملائه وببيئته العلمية وبعامة الناس .

 

والى جانب كل ذلك ، هناك ميزات أخرى مهمة في منهج التعليم القديم أتى في مقدمتها: الارتباط بالقيم الروحية ووثوق العلاقة بين الطالب والأستاذ ، وبقاء الأبواب مفتوحة للطالب لاكتساب ما يمكنه من التعليم وفقا لما يملك من ذهنية علمية وبعد زمني "فلا يوجد فاشل في ميدان التعليم الديني ، لأنه يتيح مجالا لكل القدرات . فإذا حفظت القرآن واكتفيت بذلك يمكنك أن تفيد الناس شيئا ،  وإذا حفظت شيئا من علوم الفقه فيمكنك أن تنفع الناس في هذه الحدود ، وإذا تعمقت في الحديث والأصول فيمكنك أن تعطي شيئا أكثر وهكذا" 14

 

ومع بروز هذه النقاط الإيجابية التي تصب في صالح المنهج القديم وفي فن التدريس موضوعا وأسلوبا ؛ إلا أن هنالك الكثير من نقاط الضعف الأساسية تسجل على تلك المناهج والأساليب التعليمية لا يمكن لها أن تجعل من التعليم القديم منسجما ومتسقا مع الظروف الحالية والمتقدمة علميا وإنسانيا ، كما أنها لا تستطيع أن تخرج للمجتمع إنسانا قادرا على الانسجام مع فئات المجتمع المختلفة والتفاعل مع تحولاته السريعة جدا في مجالات التنمية وتقنية الاتصال والاستراتيجيات السياسية والاقتصادية والثقافية العظمى إلا بمبادرات فردية. ولو أردنا أن نمثل للوضع السائد فإننا سنجد أن هناك مسافة واسعة تفصلنا عن عالم اليوم في الشأن التعليمي تشابه إلى حد ما المسافة والزمن الفاصلة بين أوضاع عالمنا الإسلامي على عهد السلطنة وأوضاع أوروبا بعد تطور نهضتها . فيوم توقف المسلمون اكتسحتهم مناهج الغرب . 

 

وعلى الرغم من بقاء المنهج التعليمي القديم قادرا على أداء رسالته من حيث البناء الروحي والوجداني للطالب وزيادة ثقته في علمه ومؤسسته التي ينتمي إليها؛ إلا أن الدور الذي يمكّن الطالب من تأدية وظيفته في حال تخرجه هو دور محدود ومقصور على الجانب الروحي الوجداني بجانب أثر ليس بالريادي في مجال الضرورات الحياتية والتحديات التي تعترض مسيرة المجتمع الناتجة عن المدنية سريعة التغير والتحول في المجالات العلمية والتنمية التعليمية على وجه الخصوص.

 

وقد استطاعت مناهج الدراسات والتعليم في المؤسسة التعليمية الدينية حتى عهد تطورها إلى مستوى منهجي ومؤسسي مناسب أن تخرج العديد من العلماء والمراجع الكبار الذين ساهموا في تطوير المناهج الدينية ومؤسساتها ، سواء بالبحث والتحقيق أو إصدار مؤلفات متقدمة زادت في ثراء تراث المؤسسة التعليمية وألقت بظلالها على المادة العلمية ومناهج الدراسات وأوصلت المؤسسة التعليمية الدينية بالأوضاع الاجتماعية ورفعت من درجة تفاعلها نسبيا . كما ساهمت في الحفاظ على تراث أهل البيت (عليهم السلام) وتزويده بعوامل البقاء، ولكن ذلك جاء في صور فردية. وكان من بين أشهر هؤلاء العلماء الكبار الذين برزوا في هذا المضمار من بعد نشوء وتطور المؤسسة التعليمية الدينية على يد الشيخ الطوسي في النجف الأشرف كل من : أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن (602- 676هـ) المشهور بـ (المحقق الحليّّ) ، وله مؤلفات مميزة منها: كتاب (شرائع الإسلام) وكتاب (المختصر النافع) . ونصير الدين محمد بن الحسن الطوسي المتوفى في سنة (672هـ) المشهور بـ (المحقق الطوسي) وله كتابه الشهير (تجريد الاعتقاد) في علم الكلام . والحسن بن يوسف بن علي المطهّر المتوفى في سنة (726هـ) المشهور بـ ( العلامّة الحليّّ) وله (تذكرة الفقهاء) مؤلف من عشرين مجلداً ، وله أيضا (قواعد الأحكام) . وابن العلاّمة الحلّي المشهور بـ (فخر المحققين) المتوفى في سنة (771هـ) وله كتاب (إيضاح الفوائد في شرح إشكالات الفوائد) المؤلف من أربع مجلدات . وأبو عبد الله محمد بن مكي العاملي المشهور بـ (الشهيد الأول) المستشهد في سنة (786هـ) وله (اللمعة الدمشقية)  و(القواعد والفوائد) . وجمال الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن فهد الحليّّّ المشهور بـ (ابن فهد الحليّّ) المتوفى في سنة (841هـ) وله (المهذَب البارع في شرح المختصر النافع) المؤلف من خمسة مجلدات . والشيخ علي بن الحسين الكركي المشهور بـ (المحقق الثاني) المتوفى في سنة (941 هـ) وله (جامع المقاصد في شرح القواعد) المؤلف من ثلاثة عشر جزء . وزين الدين بن علي الجبعي العاملي المشهور بـ (الشهيد الثاني) المستشهد في سنة (966هـ) وله (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية) و(مسالك الإفهام في شرح شرائع الإسلام) المؤلف من خمسة عشر مجلداً . والمولى أحمد بن محمّد الشهير بـ (المقدّس الأردبيلي) والمتوفى في سنة (993هـ) وله (مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان) المؤلف من أربعة عشر مجلداً . ومحمد محسن الشهير بـ (الفيض الكاشاني) المتوفى في سنة (1091هـ) وله (الوافي والصافي ومفاتيح الشرايع) . ومحمد بن الحسن المشهور بـ (الحر العاملي) المتوفى في سنة (1104هـ) وله (وسائل الشيعة) المؤلف من ثلاثين مجلداً . والمولى محمد باقر بن المولى محمد تقي المجلسي المشهور بـ (العلامّة المجلسي) المتوفى في سنة (1111هـ) وله (بحار الأنوار الجامعة لدرر الأخبار) المؤلف من مائة مجلد . والشيخ يوسف البحراني المشهور بـ (البحراني) المتوفى في سنة (1186هـ) وله (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة) المؤلف من خمسة وعشرين مجلداً . والمحقق السيد علي الطباطبائي الشهير بـ (مير سيد علي) والمتوفى في سنة (1213هـ) وله (رياض المسائل) . والسيد محمد جواد الحسيني العاملي المتوفى في سنة (1226هـ) وله (مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة في بيان الأحكام بالدلائل) المؤلف من عشرين مجلداً . والمولى أحمد بن المولى محمد مهدي النراقي المشهور بـ (النراقي) المتوفى في سنة (1244هـ) وله (مستند الشيعة في أحكام الشريعة) المؤلف من تسعة عشر مجلداً . وجعفر بن خضر بن يحيى المشهور بـ (كاشف الغطاء) المتوفى في سنة (1228هـ) وله (كشف الغطاء) . ومحمد حسن النجفي المتوفى في سنة (1266هـ) وله (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) المؤلف من ثلاثة وأربعين مجلداً . ومرتضى بن محمد أمين المشهور بـ (الشيخ الأعظم) المتوفى في سنة (1281هـ) وله (المكاسب وفرائد الأصول) . والسيد محمد حسن الشيرازي المشهور بـ (المجدد) وصاحب انتفاضة التنباك المتوفى في (1312هـ) وله (تحريرات في الأصول) و(تحريرات في الفقه) و(رسالة في الرضاع) و(رسالة في اجتماع الأمر والنهي) . والميرزا محمد تقي الشيرازي المشهور بـ (قائد ثورة العشرين) المتوفى في سنة ( 1338هـ) وله (حاشية المكاسب المحرمة) و(مباحث الأصول) (حاشية كتاب البيع) . والميرزا حسين النوري الطبرسي المشهور بـ (النوري الطبرسي) المتوفى في سنة (1320هـ) وله (مستدرك وسائل الشيعة) . والشيخ محمد كاظم الخراساني المشهور بـ (الآخوند الخراساني) المتوفى في سنة (1329هـ) وله (كفاية الأصول) . والسيد محمد كاظم اليزدي المتوفي في سنة (1337هـ) وله (العروة الوثقى) و(حاشية المكاسب) و(كتاب التعادل والترجيح) . والسيد أبو الحسن الأصفهاني المتوفي في سنة (1365هـ) . والسيد محسن الطباطبائي الحكيم المتوفى في سنة (1390هـ) وله (مستمسك العروة الوثقى) المؤلف من أربعة عشر مجلداً . والشيخ محمد رضا المظفر المتوفى في سنة (1963م) وله (علم أصول الفقه) و(علم المنطق) . والسيد أبو القاسم الخوئي المتوفى في سنة (1413هـ) وله (بحوث في شرح العروة الوثقى) و(معجم رجال الحديث) و(البيان في تفسير القرآن) . والسيد محمد باقر الصدر وله (دروس في علم الأصول) و(فلسفتنا) و(اقتصادنا) و(الأسس المنطقية للاستقراء) . والسيد محمد الحسيني الشيرازي المتوفى في سنة (1422هـ/2000م) وله أكبر موسوعة فقهية في العالم الشيعي مؤلفة من 160 مجلدا ، ويعد أكبر مؤلف في العالم وله 1500 كتابا قيما في أصول الدين وأصول الفقه وفي مجالات مختلفة . والسيد محمد تقي الحكيم المتوفى في سنة (1423 هـ) عميد كلية الفقه (1965- 1970م) له (الأصول العامة للفقه المقارن) و (مناهج البحث في التاريخ).

 

إن هناك شبه إجماع في المؤسسة التعليمية الدينية على أن نتاج منهجها الراهن بحاجة إلى انطلاقة كبيرة وحديثة على طريق تخريج مستويات علمية رفيعة مؤهلة لسد حاجات الأمة الإسلامية في مثل هذا العصر المعقد في ثقافته وعلومه واقتصاده وسياسته وتطوره العلمي والتكنولوجي . وربما كان المنهج التقليدي القديم قادرا على إنتاج مراجع وفقهاء ومؤلفين ومدرسين يسدون حاجات المؤسسة التعليمية الدينية ذاتها في مجالات المنهج التعليمي وبعض الحاجات المتعلقة بشؤون الشريعة ومادتها ؛ لكن هذا التوسع الكبير في الحياة العلمية والحضارية وحاجة المجتمع المسلم إلى قيادات ورموز مرجعية وفقهية تدير كل شؤون حياته في هذا البحر المتلاطم من الثقافات والأفكار والمناهج المتطورة المخالفة أو المناهضة للدين أو المتقدمة جدا على كل ما هو متاح من فكر إسلامي؛ يتطلب المئات وليس العشرات من المراجع والفقهاء الذين يحملون في ذواتهم مؤهلات زعامة الأمة على مختلف الصعد إلى جانب إدارة دفة الحواضر العلمية الفقهية . 

 

وقد مثلت الثغرة التعليمية أو ما عرف بقضية الفصل بين التعليم الديني والمدني انفصاما حقيقيا في العقل الإسلامي ، والى جانبها برزت نظريات حديثة ومتطورة في مناهج التاريخ واللغة والحضارة والميتافيزيقا ونظرية المعرفة (الابتستمولوجيا) وما يعرف بالأنسنة في وقت انشغلت فيه المؤسسة التعليمية الدينية بشكل رئيسي بعلوم أخرى متعلقة بمفاهيم التأصيل وباللغة خاصة وبجدل الثابت والمتغير ، وبمقولات عدت خليطا ومزيجا بين فلسفات نشأت على عهد سقراط وأفلاطون وأرسطو كمقولات ابن سينا والمشائين والسهروردي والاشراقيين وملا صدرا ، مع إعراض عن الاستجابة للتحولات المستجدة في المحيط الاجتماعي والثقافي والعلمي الحضاري .

 

وإذا ما شاءت المؤسسات التعليمية الدينية المنشغلة بجدل تلك المقولات العزم على الإصلاح والتجديد فإنها ستظل رهينة بأصول تلك الفلسفات ومفاهيمها ونظرياتها بلا نتاج لها حينئذ إلا استقراء شكليا مباينا للصورية الاستنباطية ومغلفا بها في نفس الوقت ، ثم تتحول مادة الفلسفة في المؤسسة التعليمية الدينية إلى جدل العلة والمعلول ثم تتكشف في النهاية مظاهر السقوط في وحل ديانة وحدة الوجود والموجود ، وربما يعاد التحقيق في وحدة الوجود بعد تعاظم أخطائها القاتلة ليخلص النظر إلى مبنى ما يعرف اليوم بـ (السلطنة والهيمنة) في الخالقية.

 

ولكون منهج المؤسسة التعليمية لا يملك ضوابط التوجيه في علاقته مع المحيط التعليمي ومتطلباته العصرية ؛ فإن معايير التعاطي السليم والمثمر مع المحيط الخارجي بتفاعلاته تظل غائبة أيضا . وقد تتفاعل المؤسسة التعليمية مع هذا المحيط بشكل حر فتصيب في تشخيص موضوع الفقه مثلا وقد تخطئ في مجال التعاطي مع نتاج العلوم الإنسانية والطبيعية والرياضية . لذلك تتبنى بعض مدارس المؤسسة التعليمية اتجاهات ومباني مختلفة قد تصل في علاقاتها البينية إلى حد النزاع ونبذ الآخر ، كما هو الحال في منهج التعاطي مع فصول الفلسفة والتصوف الفلسفي (العرفان) أو حتى مبدأ الاجتهاد ذاته ومفاهيمه وأصوله وقواعده ، فذلك من الدواعي الضرورية لتغيير المنهج وقواعد المؤسسة ونظم علاقتها الداخلية وعلاقاتها بالمجتمع وبحواضرها العلمية وبنظرياتها الاجتماعية لكي تتحاشى اضطرار منتسبي هذه المؤسسة إلى الاقتباس والالتقاط على مبدأ التعويض أمام الإحساس بالعجز والنقص المنهجي أو العلمي أو الثقافي . 

 

ومع توافر بعض الجهود المسئولة التي راحت تهذب في المادة المتداولة وتصوغها صياغة علمية منهجية مناسبة لسد حاجات المؤسسة التعليمية الدينية ؛ إلا أن حركتها مازالت بطيئة جدا وتنحصر أغلبيتها في علوم الآلة وبعض مواد مرحلة المقدمات فقط ، ولم تمس جوهر بعض المواد التي ظلت محلا للجدل الطويل في المؤسسة التعليمية الدينية كالفلسفة والتصوف الفلسفي (العرفان) وعلم الكلام وعلم أصول الفقه والمنطق والتاريخ والسيرة وما أشبه ،  ولم تضف مواد جديدة أخرى إلى المنهج التعليمي أو تميز مضامينها على منهج شك المتخصصين من رواد المؤسسة التعليمية القديمة الذين يعتقدون بأن المنهج التقليدي القديم مازال يتسم بالتقدمية والتميز على أية مناهج جديدة أخرى ، وأن محاولات الإصلاح والتجديد المستمرة في المنهج تفتقد الاستقرار والثبات فضلا عن الكفاءة .

 

وربما يكون الإصلاح والتجديد في مراحل متقدمة من الدراسة في المؤسسة التعليمية على صعيد المنهج مقبولا لأن الطالب عندها يكون مؤهلا لمرحلة الاستدلال التي تتطلب ذهنا بحثيا منقبا ، كما أن الطالب في هذه المرحلة قادر على تقييم المنهج ، وقادر على متابعة أثر أية نظرية جديدة تنبثق عن اجتياز الطالب لمراحله الأولى والثانية وكشف صوابها أو خطئها , وربما يكون الفقيه في هذه المرحلة أيضا منفتحا على أشكال وألوان من النظريات والثقافات التي تجول في الساحة الإسلامية فيتعرف من خلالها بسهولة على أي معطى جديد ، "لذا نجد مثل نظرية (الاستجابة الشرطية) للعالم الروسي (بافلوف) قد دخلت في مجال اللغة أيضا واستخدمها بعض العلماء في مسألة (الوضع) ، وهي بصدد الإجابة عن سؤال يتعلق بتفسير العلاقة (التلازم ، السببية ، الاندماج) بين الألفاظ والمعاني ، إذ أن اختيار الإنسان لفظا محددا لمعنى معين لا يفسر التلازم بينهما ،  وقد ذكرت نظريات متعددة كالتعهد والمناسبة الاعتبارية والقرن الأكيد ، وهذه الأخيرة اعتمدت على نظرية (الاستجابة الشرطية) حيث أن هناك حالة استجابة شرطية ما بين سماع كلمة والانتقال إلى معنى تلك الكلمة من خلال التكرار ،  ولذلك يتعلم الناس اللفات من خلال التكرار . وهذه استفادة جيدة ونموذج لتداخل العلوم "15.

 

المصادر

------

1- مقدمة ابن خلدون . ص435

2 - المصدر السابق . ص435

3 - مجلة الجامعة الإسلامية . ع1 . 1994 ص47-48 . 

4 - د.عبد الهادي الفضلي . أصول البحث .  ص96

5 - المصدر السابق .  ص71 

6 - مقدمة ابن خلدون .  ص435

7 - د محمد عمارة.جمال الدين الأفغاني موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام .  ص 24.

8 -  أصول البحث .  ص 53-54

9 -جمال الدين الأفغاني موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام .  محمد عمارة .ص25 

10 - المصدر السابق  ص268

11 - مقابلة . الامين العام للجامعة الاسلامية د.السيد محمد علي الشهرستاني

12 - مجلة الجامعة الإسلامية .  ع1 كانون الثاني  1994م .  ص226-227 . 

13 - مع علماء النجف الأشرف . محمد جواد مغنية .ص197

14 - مجلة الجامعة الإسلامية .  ع1 كانون الثاني  1994 . ص226-227 . 

15 - مجلة (البصائر) الفصلية.العدد (32).

طباعة : نشر:
 
يرجى كتابة التعليق هنا
الاسم
المدينة
التعليق
من
رمز التأكيد Security Image
 
جميع الحقوق محفوظة لشبكة النعيم الثقافية © 2003 - 2024م