ذكريات الطفولة والصبا تحضر قادة الهئية ووطنيتهم بقلم: إبراهيم كمال الدين
إن ذاكرة الطفل شريط مسجل لا يمحى ولا يتآكل بتقادم الزمن ولكن هذه الذاكرة المخزنة في العقل الباطن، بعضها يتحول لسلوك يرافق الفرد، ويصوغ شخصيته ومواقفه، فبعضها شاخص في العقل الظاهر... يضغط للبوح به كمشاهدات تروى وكأن من يرويها يعيش أحداثها للتو... وتتراقص الشخوص أمام عينيه.
من هذه الذكريات، ذكريات لم أسجل تاريخها ويوم حدوثها بالقلم... ولكنها محفورة في العقلين معاً الظاهر والباطن وليعذرني القارئ من عدم ذكر الأيام والتواريخ. ولكني سأحصر هذه الذكريات (أيام الطفولة) في الفترة ما بين أعوام 1952م حتى العام 1956م. أي أعوام انتفاضة شعب البحرين المطالبة بالإستقلال وإصدار دستور نابع من إرادة الشعب، ممثلا في مجلس تأسيسي وإجراء انتخابات بلدية وبرلمانية. هذه المطالب التي رفعتها هيئة الإتحاد الوطني التي كان الوالد المرحوم السيد علي كمال الدين أحد قادتها. حيث تشكلت شخصية الوالد الوطنية من عدة ظروف:
أولها: نشأته في وسط عائلة متعلمة وعلمائية، ومشهود لهذه العائلة انتماءها الوطني وحبها لهذه الأرض وهذا الشعب – وقدمت الكثير من التضحيات في سبيله - .
ثانيهما: تلقيه الدراسة في البحرين ومواصلته الدراسة في حوزات النجف الأشرف، هذه المدينة التي قادت ثورة العشرين ضد الإستعمار الإنجليزي، وسطرت ملاحم البطولة والفداء. وما كانت تحويه الحوزات العملية من رجال أفذاذ كلهم علم وشجاعة وفداء لوطنهم – ورفضهم لوجود المستعمر الأجنبي، وطلبة متعطشون للعلم والمعرفة والتوزد بزاد الوطنية وحب الشعب – فكان منهم الشاعر العراقي الكبير الجواهري وصديقه الشاعر السيد محمد صالح بحر العلوم، صاحب القصيدة المشهورة (أين حقي)، والسيد حسين مروة – صاحب كتاب (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) – وقس على ذلك. في هذه الأجواء درس الوالد واضطلع على تجارب من سبقوه، وعاد إلى أرض الوطن مشبعا بالوطنية والعلم – ولم يقطع علاقاته بالرموز الوطنية التي تعرف عليها بل بقي متواصلاً معها مثالاً على صلاته بالشيخ عبدالحسين الحلي وهو في النجف، وعند قدومه للبحرين "مميزاً" في محاكم التميز الجعفرية.
وكان رجل دين متنوراً متحضراً بكل معنى الكلمة، حيث كان يهتم بتعليم أبناءه وبناته، فأدخلنا المدارس منذ الصغر، في الوقت الذي كان فيه الذهاب للمدرسة يعتبر عن البعض مفسدة، وكان يحرص على تعليمنا في البيت، وكان يكرر أمامنا ويلقننا ألفية ابن مالك في قواعد اللغة العربية شعراً، وينقل لنا ما هو ظريف ومفيد من أمهات الكتب التي يقرأها ويحفظنا الأناشيد منها.
واحد واثنان **** آتي من البستان **** أبي الذي رباني ثلاثة وأربعة **** أحضر تفاحة معه **** يا حسنه ما أبدعه خمسة ستة **** تفاحي أكلته **** وبأس ما فعلته سبعة ثمانية **** يا آكلا تفاحي **** لم يبق منه باقية تسعة وعشرة **** أكلت حتى القشرة **** حتى عددت العشرة وقصيدة: صوت صفير البلبل **** هيّج قلبي الثمل
ومقالب الشاعر أبونواس مع الرشيد وزوجته زبيده، وكان يختار لنا من الأبيات الشعرية الصعبة لنحفظها مثل: أ- لو كنت كنت كتمت الحب كنت كما كنا نكون ولكن ذلك لم يكن ب- وقبرُ حربٍ في مكانٍ قفرِ وليس قرب قبر حربٍ قبرُ
وكنا نعيش المعلقات شعراً ... وتاريخ الدولة الأموية والعباسية والخلفاء الراشدين .. فكان الحضارة العربية الإسلامية متمثلة أمامنا بشخصوها. من فم الوالد والوالدة، التي هي كذلك من سلالة علمائية وقارئة وراوية للقصص والأحاديث، كما كان يروي لنا قصص التاريخ والحروب العالمية الأولى والثانية وقصص الرحالة والمستشرقين أمثال عبادلله فليبي ولورنسُ.
ولشحة المستشفيات وانتشار الأمية والجهل بالأمراض، كانت الناس تلجأ للمشعوذين وتنسب أمراضها (لمس الجان) ووفاة الأطفال نتيجة لأمراض الدم الوراثية، (التابعة) أن جنية تتبع هذه السيدة وتتابعها لجمال أولادها، وتقتلهم بعد الولادة، فكان يشوه المولود (بالسنون) ومحلول النقطة المحروقة، حتى يبتعد عنه الجان (التابعة)، وتوزع النذور على ساحل البحر (العدره) مكونة من السكر ودهن الغنم، ويكسر البيض على الصخور، وتدعى الجان لتناول هذه الوجبة، ليخرج مسها من البشر، ويلجؤون لرجال الدين للتبارك بهم، لإبعاد الأمراض والحسد عنهم. فكان منزلنا مزاراً لكل نساء الحي، طالبي العلاج والبركة، إلا أن الوالد يرفض أن يقرأ عليهم سور من القرآن إلا بعد أن يؤخذ الطفل إلى الطبيب، وبعد أن يتأكد من علاجه في المستشفى يقرأ عليها آيات من الذكر الحكيم تبركاً كما يقول، وكانت نظرت المجتمع إليه نظرتهم للرجل العالم الجليل الحكيم، وأنا كلي يقين بأنهم رجل سبق زمانه بما يحمله من روح تحضّر وحب العلم وحث الناس على التقدم والرقي، وفي إحدى المرات كنت معه في سيارة الهيئة – سيارة شفر خضراء يقودها المروحم مبارك الحايكي – وفي السيارة مجموعة من رجال قرية دار كليب تجلس في الخلف والوالد في المقعد الأمامي مع السائق، وكان الوالد يتابع نشرات الأخبار من راديو السيارة من صوت العرب إلى إذاعة لندن إلى إذاعة القاهرة. فسأله أحد الركاب (سيدنا الراديو مو حرام إلا إنته تشغله؟) أي أما هو محرم عليك استعمال الراديو، وكان وقتها في الخمسينات اقتناء الراديو حرام، والإستماع إليه من المحرمات ... فأجابه الوالد: كيف يكون حراماً وهو يعرفك بأخبار العالم وثقافات العالم.. إنه مدرسة، فرد عليه الرجل: زمن باكر سأشتري الراديو وإذا أصبح أهل القرية أقول لهم السيد علي حلل الراديو.
وحادثة أخرى تدل على وطنيته وتحضره، هي حادثة المظاهرة النسائية اتلي سارت في شوارع المنامة وتحديداً أمام البلدية القديمة باسم مظاهرة تحرير المرأة، وشارك في هذه المسيرة مجموعة كبيرة من نساء البحرين المتعلمات منهم الطبيبة والمحامية والمدرسة .. كل ذلك في الخمسينات، وكان المسيرة ترفع شعارات هيئة الإتحاد الوطني (مجلس تأسيسي، ورحيل المستشار بلكريف والقوات الإنجليزية) و(تحرير المرأة). وتشكلت لجنة نسائية من المتظاهرات، كانت تزور بيتنا في حي النعيم وتجتمع بالوالد.
أتذكر من هذه اللجنة، الدكتورة فاطمة الزياني، بدرية خلفان، شهلة خلفان، والمحامية فاطمة الدلال، وكن يطالبن الهيئة بإشراك النساء في العلمية السياسية، ويطالبن بالمساوة بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات، وكانت الدكتورة فاطمة الزياني تقود السيارة وتنقل عضوات اللجنة لتجتمع بقادة الهيئة.
وللحديث بقية .......... |