حركة الصيام في واقع الأمة
المقدمة:
لعل نظرة فاحصة سريعة نحو العالم المعاصر اليوم تكشف لنا وبكل وضوح مدى المأزق الكبير الذي وقعت فيه البشرية، ومقدار المعاناة التي تعيشها الإنسانية وعلى مختلف الأصعدة، رغم كل التقدم العلمي والتكنولوجي ورغم كل التطور في مجالات الحياة ورغم الرفاهية المادية.
فها هي الأمراض الروحية تنهش في جسد الأمم، لتستنفذ كل طاقاتها الفكرية والعملية لتعيش الأمم جسما بلا روح وتعيش ضياعا وتيها.
إن هذه المشكلة تعصف بكل الراحة التي يحصل عليها الإنسان والتي توفرها له الأجواء المادية فيعيش قلقا واضطرابا.
ما حقيقة المشكلة؟
المشكلة تكمن في البناء الداخلي للإنسان، الذي ينعكس على كل سلوكه وواقعه، فالإنسان يعيش ظمأً وخواءً في داخله، ولم تستطع كل معطيات العلم أن تسد هذا الخلل، ولم تستطع حالة الانتماء الديني الهش والممارسات العبادية الهزيلة أن تقدم شيئا حقيقيا للإنسان.
وأما بالنسبة إلى الإنسان المؤمن فالمشكلة تتحرك في إطار آخر بالنسبة إليه، فهو رغم ما يقوم به من استلزامات دينية إلا أنه يحس في داخله بعدم التناغم التام مع معطيات الانتماء، وقد لا يرى أثرا كبيرا للكثير من الممارسات العبادية في حياته، ولا يحس بقدرته على الاستفادة والانتفاع منها بالنحو المطلوب، ولذلك يعيش أيضا حالة من القلق الروحي والهم النفسي الذي ينعكس على مجمل سلوكه وحركته في الحياة.
الرؤية الإسلامية للقضية
الإسلام ومن خلال منظومته المتكاملة ومنهجه الشامل عالج المشكلة من أساسها، ومن مختلف جهاتها، فالسلوك العملي للإنسان إنما ترجمة لبناء الإنسان الداخلي وما يتشكل عنده من:
1- محتوى ثقافي وفكري
2- محتوى روحي ونفسي
ولا يتحقق ذلك إلا من خلال حركة انتماء قادرة على تغطية حاجة الإنسان في هاذين المجالين بنحو متناسق ومتكامل، ويشعر معها الإنسان بحالة الهدوء والراحة والاطمئنان، لأنه يسير وفق أهداف واضحة وضمن رؤية بينة، مستمدا قوته من القوة الإلهية، شاعرا بالعزة والكرامة، متقدما بخطى ثابتة في طريق بناء الحياة وإعمارها، ومن أجل ذلك وضع الإسلام منهجا دقيقا وبرنامجا متكاملا لبناء الإنسان فكرا وروحا وسلوكا.
البرنامج العبادي في الإسلام
لقد وجه الإسلام الإنسان إلى تحصيل العلم النافع لبناء فكر واع، وحرك برنامجا عباديا ضمن مجموعة متكاملة من الواجبات والمستحبات.
والعبادات تعتبر في الرؤية الإسلامية من أهم نقاط برنامج الإعداد للإنسان، لا على مستوى الروح فقط بل على مختلف الأصعدة.
فالعبادة هي حركة القرب من المولى، للوصول إلى حالة الانصهار والذوبان الذي لا يترك للإنسان مجالا للنظر هنا أو هناك أو للحركة في أي اتجاه غير الاتجاه الذي يرضاه سبحانه وتعالى، فالعبادة بناء فكري وروحي واجتماعي وسياسي.
ولعل من الأمور الخاطئة المرتكزة في أذهان الكثير من الناس، أن العبادة لا دور لها إلا تنمية الجانب الروحي لدى الإنسان فقط، ولعل في هذا تقليصا واضحا لدور العبادة الحقيقي، بينما الحقيقة هي أن العبادة تلعب دورا مهما في تنمية مختلف الجوانب لدى الإنسان.
بل أن تنمية الجانب الروحي يعتمد أساسا على بناء فكري توفره العبادة في الكثير من امتداداتها، وأجواء مناسبة تهيأ للإنسان الانطلاق في حركة البناء الروحي، الذي يفجر طاقات الإنسان نحو الخير ويحدد له مساره في طريق الهدى بعيدا عن كل أنواع الانحراف والزيغ والضياع.
من هنا يتبين لنا أن أهداف العبادات متداخلة ومتكاملة، فالتنمية الفكرية أساس مهم للقدرة على استيعاب دور العبادة والتفاعل معها، والتنمية الروحية أيضا أساس مهم للانطلاق في عملية بناء فكري سليم، يؤسس لهوية محددة وواضحة للإنسان ويكون قادرا على العطاء في مجمل حياة الإنسان.
شهر رمضان هو شهر الضيافة الإلهية والمائدة الربانية الممدودة لعباده وهو الشهر الذي ينفتح فيه الإنسان في حركة تواصل مكثفة مع الله سبحانه وتعالى، وهو من أهم المحطات السنوية للإنسان المؤمن للارتقاء بمستواه الروحي والإيماني.
ومن هنا تبرز أهمية استغلال الشهر الكريم بالنحو الأمثل كي تتحقق النتائج المرجوة منه وكي لا يمر الشهر مرور الكرام والإنسان في غفلة منه غير واع لأهدافه وغاياته غير ملتفت إلى أهمية استغلاله وضرورة الاعتناء به.
حيث أن الكثير منا يتعامل مع الشهر تعامله مع مجمل العبادات التي يؤديها بشكل روتيني يفقد العبادة دورها الحقيقي وأثرها الفاعل في حياة الإنسان والأمة المؤمنة، والذي قد ينعكس سلبا في أحيان كثيرة بأن تنقلب أجواء العبادة ومواسم الطاعة إلى محطات ينطلق الإنسان فيها في خط الشيطان مستغلا هذه الأجواء.
وكم يأسف المرء عندما يشاهد الكثيرين ممن يعتبرون شهر رمضان المبارك فرصة مناسبة لممارسة الكثير من أنواع المحرمات ويأسف أكثر عندما يرى أن ذلك يقنن ويدعم بسياسات تريد لهذا الشهر المبارك أن يكون فاقدا لكل دوره الحقيقي فارغا من كل مضمون وعطاء من خلال البرامج اللهوية والتمييعية والتضليلية للأمة.
دور الصيام في حياة الفرد والأمة
في الرواية الواردة عن الإمام الرضا (ع): (( إنما أمروا بالصوم لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش فيستدلوا على فقر الآخرة، وليكون الصائم خاشعا ذليلا مستكينا مأجورا محتسبا عارفا صابرا على ما أصابه من الجوع والعطش، فيستوجب الثواب، وليكون ذلك واعظا لهم في العاجل، ورايضا لهم على أداء ما كلفهم، ودليلا لهم في الآجل، وليعرفوا شدة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا، فيؤدوا إليهم ما افترض الله لهم في أموالهم )) وسائل الشيعة ج10 ب1 وجوب الصيام ح 5
تكشف لنا هذه الرواية عن فلسفة الصيام من مختلف أبعاده، ولست بصدد التحدث عن ذلك تفصيلا، لكن يمكن لنا أن نستفيد من الرواية عدة أمور فيما يرتبط بدور الصيام بالنسبة إلى الفرد وفي واقع الأمة:
1- البناء الفكري: أن أهم نقطة ولعلها النقطة المركزية في الرواية عندما تتحدث عن فلسفة الصيام هي ما يتعلق بالجانب الفكري والعقيدي، (( لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش فيستدلوا على فقر الآخرة )) ألم الجوع والعطش يكشف للإنسان مقدار ضعفه وعجزه، حتى عن احتمال هذا الألم المحدود المرتبط بالطعام والشراب، فتنفتح آفاق الإنسان على القدرة اللامتناهية والعظمة اللامحدودة، فمن فقره يستدل على الغنى المطلق ومن عجزه يستدل على القدرة المطلقة ومن ضعفه يستدل على العظمة المطلقة ومن نقصه يستدل على الكمال المطلق، من هنا تخرج العبادة عن إطار الممارسة المجردة لتعطي للإنسان بعدا آخر في استيعاب حقيقة وجوده وبلورة هويته ويحقق عمقا في حركة التواصل مع الله سبحانه وتعالى مما يجعل للعبادة دورا مهما وحيويا في مجمل حركة الإنسان.
2- الإعداد النفسي: إن المشكلة الكبيرة التي يعاني منها الإنسان أنه لا يعيش انسجاما نفسيا مع الكثير من الممارسات العبادية، لإحساسه بثقلها وصعوبتها، وهذا الأمر إنما هو نتيجة أمرين، الأول عدم التدريب للنفس على ذلك والثاني انفتاح الإنسان على الكثير من الأجواء والممارسات التي تضعف ارتباطه بالعبادة وتثقلها في نفسه، ومن هنا يحتاج الإنسان إلى عملية ترويض دائم للنفس، كي تعتاد على الطاعات وتعيش بعدا نفسيا عن المعاصي والمحرمات، وفي هذا الإطار نلاحظ أن الرواية في حديثها عن فلسفة الصيام تشير إلى هذا الجانب ((ورايضا لهم على أداء ما كلفهم )) وذلك من خلال تعويد النفس على الصبر على الجوع والعطش، وإذا تمكن الإنسان من أن يعوّد نفسه على حالة الحرمان من أهم متطلباتها المادية المحللة من الطعام والشراب، فهي خطوة في طريق تعويد النفس على الصبر على غيرها من الأمور، وخصوصا ما كان محرما ومبغوضا من قبل الله سبحانه وتعالى، ((وليكون الصائم خاشعا ذليلا مستكينا مأجورا محتسبا عارفا صابرا على ما أصابه من الجوع والعطش فيستوجب الثواب )) وهكذا يكون لحالة الانصهار في أجواء الصيام الدور الكبير في الانفتاح على بقية العبادات، وتشكيل النفس القوية والإرادة القادرة على ضبط حركة الإنسان وتوجيهه نحو الصواب.
3- البعد الاجتماعي: ارتباط العبادة بالجانب الاجتماعي يعطي للعبادة بعدا حيويا بعيدا عن الجمود والتقوقع في إطار محدود، و نلاحظ ذلك من خلال الرواية ((وليعرفوا شدة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا، فيؤدوا إليهم ما افترض الله لهم في أموالهم ))، إن أكثر العبادات تملك بعدا اجتماعيا مهما يخرج العبادة عن كونها سلوكا فرديا ليجعلها مفردة متحركة في واقع الحياة، وكلما أخلص الإنسان في تفعيل هذا الدور كلما أحس بقيمة العبادة ودورها، وهكذا ينمو ويرتفع المستوى الروحي للإنسان ويتحقق دور العبادة الحقيقي في حياة الإنسان، ولهذا نلاحظ الكثير من المستحبات الشرعية المرتبطة بالجانب الاجتماعي في شهر رمضان، ففي خطبة الرسول (ص): (وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم ووقروا كباركم وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم)، (وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم)، (من فطّر منكم صائما مؤمنا في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة ومغفرة لما مضى من ذنوبه)، (من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام ومن خفف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه ومن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه ومن أكرم فيه يتيما أكرمه الله يوم يلقاه ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه)، والذي نستفيده من جملة هذه الكلمات ضرورة استثمار الشهر في مجموعة من البرامج الاجتماعية، التي تهدف إلى تمتين العلاقات الاجتماعية ورفع كل نقاط الخلل والقصور في هذه العلاقات، وملاحظة الفئات المحرومة والتي تعاني من الحرمان المادي كالفقراء والمساكين أو الحرمان المعنوي كالأيتام، ومن ثم ينتهي الشهر أيضا بزكاة الفطرة ليعطي هذا الامتداد الواسع للعبادة في حياة الإنسان والمجتمع، من أجل أن يكون للإنسان دوره الفاعل في الحياة الاجتماعية، ومن أجل ألا يعيش منفصلا عن مجتمعه يعيش هما خاصا به دون الالتفات إلى غيره من أفراد المجتمع، كما تتحرك بنا سفينة المدنية باتجاه ذلك، وكما تريد لنا الحضارة المزعومة أن نكون في حالة تفكك وشلل اجتماعي، ليسهل تمرير كل المؤامرات وليسهل القضاء على هذه الأمة في أهم نقاط قوتها ومنعتها، ألا وهي اللحمة الاجتماعية القوية التي تقف أمام كل المؤامرات والدسائس.
4- البعد السياسي: شهر رمضان شهر الانتصارات الكبيرة والمواقف الكبيرة في تاريخ الأمة، وهذا ليس بغريب لأن حركة العبادة في هذا الشهر تعطي للإنسان المؤمن وللأمة الإحساس بعزتها وكرامتها من خلال قربها من الله، وكلما عاشت الأمة مع الله فهي لا تعرف الخوف ولا تعرف الانكسار ولا الهزيمة، وهكذا رأينا كيف صاغ هذا الشهر حركة الأمة السياسية ليكون لها الموقف الواضح من كل قوى الشرك والضلال والانحراف، ولتعطي الدروس الكبيرة للأجيال فالانتصار على المشركين في معركة بدر، والنصر الأكبر بفتح مكة، وانتصار المسلمين في حرب رمضان ضد الصهاينة وغيرها من الانتصارات، لهي شاهد مهم على دور هذا الشهر وأهميته على الصعيد السياسي، الذي يجب أن تقف فيه الأمة لتراجع كل مواقفها وحركتها السياسية، من أجل أن تضمد كل جراحاتها، وتشحذ هممها، وتبلور مواقفها، فيكون هذا الشهر منطلقا للعمل السياسي الحقيقي الناجح والمؤثر في واقع الأمة.
|