لايمكن التعرف على حقيقة هذا الأمر الاَ من خلال ما أخبرنا به الله تبارك وتعالى ورسوله محمد (ص) وأهل بيته (ع). وقد أخبرنا الله تعالي في كتابه عنه بقوله ((حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياَ لعلكم تعقلون وانه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم )). هذه الآية الشريفة توضح لنا بأن للقرآن الكريم حقيقتين ووجودين احداهما الحقيقة الشهودية والأخرى الحقيقة الغيبية وإليك تفصيل كل منها. الاولى : الحقيقة الغيبية:
والمراد منها هي الحقيقة الثابتة للقرآن الكريم في موطنه الاصلي عند الله تبارك وتعالى وراء تعقل العقول .فللقرآن الكريم مرحلة من الكينونة والوجود لا تدركه العقول ولا تناله الافهام . وقد عبر عنها في الآية الكريمة المذكورة بام الكتاب وفي آية ثانية عبر عنها بالوح المحفوظ قال تعالى بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ وفي آية ثالثة عبر عنها باكتاب المكنون قال تعالى "وإنه لقرآنكريم في كتاب مكنون" . والوح المحفوض وأم الكتاب المكنون لعله اشارة إلى المنازل الخلقية للقرآن الكريم والأطوار الوجدية الملكوتية قبل تنزله إلى عالم الملكوت فكل إسم من الأسماء يشير إلى مرتبة وجودية في طور التنزل الملكوتي .
وقد بين الله لنا وصفين للحقيقة الغيبية في هذه الآية :
الأول : كونه عليا والمراد من العلي رفيع القدر والمنزلة عن ادراك العقول بقرينة مقابلته في الآية بقوله { لعلكم تعقلون } فالعقل لا ينال إلا ماكان من قبيل المفاهيم والألفاظ وما كان وراء ذلك فتعجز العقول عن ادراكها فان غير المتجزء إلى اجزاء وفصول لاطريق لادراك العقل له.
الثاني: كون حكيما والمراد باحكامة أنةغير مفصل ولا مجزىء الى سور وآيات وجمل وكلمات ويدل علية قوله تعالي ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من حكيم خبير )فبقرينة الترتيب المستفاد من حرف العطف " ثم " تدل على أن المراد من الاحكام هو عدم التفصيل الى سور وآبات. وهذه الحقيقة لا تحصل لأحد بالعلوم الرسمية ولا المعارف القلبية ولا المكاسفة الغيبية الاٍٍٍِِّ بالمكاشفة التامة الالهية الخاصة لذات النبي الخاتم المبارك (ص) في محفل الانس وقاب قوسين أوأدنى دنواً واقتراباً من العلي الأعلى ولاتنال تلك الحقيقة للعائلة البشرية فأيديها قاصرة عن نيلها الاّ الخلّص من أولياء الله الذين اشتركوا في روحانية تلك الذات المحمدية المقدسة بحسب الانور المعنوية والحقاءق الالهية وفنوا "صلوات الله عليهم " فانهم يتلقون علم المكاشفة بالوراثة منه (ص) وتنعكس حقيقة القرآن في قلوبهم بنفس النورانية والكمال الي تجلّت لقلبه المبارك من دون التنزل الى المنازل والتطور بالأطوار الملكوتية والقرآن على حقيقته من دون تحريف وتغير حتي بلحاظ الرتبة الوجودية.
الثانية: الحقيقة الشهودية.
وهي الحقيقة المشهودة في عالم الاعيان ونعني هي الحقيقة المقرؤة باللغة العربية من قبل جبرائيل (ع) على نبينا محمد (ص) كما يدل عليها قوله تعالى " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" وأما القرآن المطبوع بالطبعات المختلفة فهو حاك لنا عن تلك الحقيقة الشهودية. ولهذه الحقيقة أوصاف متعددة وهي:
الأول: انها مقرؤة باللغة العربية قال تعالى " فاذا قرأناه فاتبع قرآنه ". بخلاف الحقيقة الغيبية فانها غير مقرؤة لأنها القراءة للألفاظ وهذه الحقيقة فوق الالفاظ فليس قابلة للقرأة أصلاً.
الثاني:انها يمكن أن تنالها العقول وتدركها الأفهام كما يشير اليه قولخ تعالى " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ".
الثالث: إن هذه الحقيقة مفصلة ومجزئة إلى سور وآيات وجمل كلمات قال الله تعالى " كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ". وهذه الحقيقة المشهودة تنال بالعلوم الرسمية والمعارف القلبية والمكاشفات العرفانية ويختلف الناس في هذه المعارف بحسب صفاء النفوس وتنورها بالأنوار الالهية.
ولسعة رحمة الله تبارك وتعالى أنزل تلك الحقيقة القرآنية إلى عبادة لهدايتهم وارشادهم إلى مافية خلاصهم من سجن الطبيعة وظلمة الدنيا الدانية قال تعالى "ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين" فصارت تلك الحقيقة على كسوة الالفاظ وصورة الحرف لاستخلاص المسجون في هذه الدنيا المظلمة وخلاص المغلولين بأغلال الامال والأماني، وايصالهم من حضيض النفس والحيوانية إلى أدراج الكمال والقوة الانسانية وابعادهم عن مجاورة الشيطان إلى مرافقة الملكوتيين بل الوصول إلى مقام القرب وحصول مرتبة لقاء الله التي هي أظم مقاصد العارفين ومطالب السالكين. ولنا حديث آحر عن مسألة كيفية نزول الحقيقة الغيبية للقرآن إلى عالم الشهود وصيرورتها من الحقائق الشهودية وسنتاولها بنحو التفصيل في الحلقات الآتية والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين. |