وصف: تحت الأرض... نبش السيرة / الأخيرة
حسن بن مبارك، صورته صارت أيقونة المطبوعات الدنماركية كلّما جاء ذكر آثار البحرين
«والدي بحار عتيد ونخلاويّ كريم، والذين يعملون في البحر والنخيل لا يغادرون القرية، البساتين من حولهم، وحظور صيد السمك والسطوة على السواحل بامتداد كلّ حظرة صيد. كان البحر لا يملكه أحد. نحن أربع بنات وأنا الولد الوحيد في بيت صغير في حي الرقعة بقرية كرانة. ولأنّ قصص الحياة في الوصف والجسد، فقد بدأ جسد والدي القويّ ينسلّ خيطاً خيطاً. باعت أميّ غنمتها الوحيدة لتشتري كيس رز صغير من نوع «حلوايوه». تحتَّم عليّ أنا الصبيّ أن أسند جسد أبي بجسدي: البحر والنخيل ونبش الأرض مع الدنماركيين بحثاً عن أحوال الذين مضوا منا. لكن هذه حالتنا، وأنا لا أنسى. أنا ميرزا بن حسن مبارك»
في مطلع هذا المشروع الصغير أشرتُ إلى أنّ الوصف أوّل السيرة، وربّما هو الحركة الأولى في الذاكرة العامة المنسيّة إهمالاً أو تعمداً خشيةً على الذاكرة الرسمية المفروضة. الوصف دَرج يصعد بسيرة إبراهيم عياد «البطل» وميرزا بن مبارك وإبراهيم الساري ببطء نحو حصول كلّ واحد منهم على معنىً لوجوده. وكلّما تعدد الوصف وتنوّع انفتحت السيرة أكثر على حياة صاحبها وتقلباتها في أزمنتها وأمكنتها التي حلّت بها. خففْ من حركة الوصف فهذه السير مرّت سريعاً مثل ومضة كاميرا. اجمعْ الوصف إلى الوصف فالذاكرة ليست واحدة وأهميتها في حيويتها غير المحصورة في ما مضى. الذاكرة بطبيعتها منتقيّة. الذاكرة ليس لها خاتمة.
حدثني ميرزا بن مبارك قال: «سوف أسرد لك كلّ شيء درجة درجة فأنا لا أنسى» وفي لقائي الثاني به وضعتُ أكثر أرشيف صور العاملين في التنقيب مع البعثة الدنماركية منذ العام 1954 بين يديه، فكان يبالغ في تقريب الصور من عينه التي يرى بها. كان يصف ثمّ يقول الاسم. وربّما تردد في اسم شخص فيردّ ذلك لضعف في عينه. قال: «لقد نسيت كثيراً. مرّت خمسون سنة، فما الذي بقي في رأسي منهم؟ كنتُ أصغر عامل في البعثة. قال والدي حسن بن مبارك: أخشى أنّهم لا يقبلون بصغير. هم يرتاحون لكبار السنّ لالتزامهم وهدوئهم وخبرتهم. لكنّهم قبلوني من أجل أبي أقدم المنقبين على أن تكون وظيفتي إزالة التراب بالفرشاة عن اللقى، وهو عمل يليق بصغير مثلي. أنا في فريق «كارين» ونسميها «كان» تخفيفاً، مثلما خففوا هم أسماءنا في نعوت ألصقوها بنا: راشد قملة، علي كزمة، حسن قبقب».
يأتي النعت من الوظيفة وربّما من السلوك، وربّما من لا شيء. يرتاح الناس للوصف وللنعوت، وهو أكثر ما يبقى في الذاكرة. النعت خلاصة.
لا يذكر ميرزا بن مبارك الأسماء إلّا بأدوارها: أحمد الجمري لبناء وإصلاح معسكر البعثة، وهو أوّل من يعمل في كلّ موسم ويغادر قبل بدء العمل، أحمد طريف الجمري طبّاخ البعثة، جاسم بن زيد لخياطة الزبلان، جاسم بن علي لغسل الخشوف واللقى الصغيرة، علي العرب لإصلاح وصيانة أدوات الحفر، إبراهيم دلال من كرانة لجلب الماء للبعثة. وهو عمل متعب جداً ولا يتوقف حتى في الإجازات. يحضر الماء من عين تسيّح الماء في بستان الشيخ إبراهيم، وإذا غاب حلّ عمه حسن دلال محله. عبدالحسن بن ربيع حارس معيّن من قبل الحكومة. حسين بن محسن توفي، وملا سلمان توفي وعلي بن مرهون توفي وجاسم بن حبيب توفي، جاسم بن علي توفي، وجاسم بن زيد توفي وعلي بن أحمد توفي وكان يتعلم السياقة، وقد نذر إن هو نجح في السياقة سوف يصدم شخصين كلّ يوم!! لكنّه توفي قبل تحقق نذره».
ينقض ميرزا بن مبارك ما أشار إليه إبراهيم عياد في صعوبة التواصل بين ثقافة العمال المحليين وأعضاء البعثة بسبب انغلاق العمال على أنفسهم وثقافتهم. وهو بذلك يشترك مع الآثاري بيتر غلوب في نقض ذلك بتدوين مشاهد عديدة لمشاركة الدنماركيين العمال طعامهم وشرابهم في مواقع العمل أو في بيوتهم وفي مناسباتهم الدينية في أكثر من قرية. يروي بن مبارك « رأيت كارين تشارك أبي تمره وتتبادل معه تدخين النارجيلة». يؤكد منصور الساري على وجود هذا الاتصال في معبد باربار أيضاً. وربّما لو أطالت الأنثربولوجية هني هانس (Henny Hansen) مدّة تواجدها في قرية سار لتراجعت عما أشارت إليه في كتابها «بحث في قرية شيعية في البحرين» من الصعوبات في أساليب الاتصال في قرية مثل «سار» بين «المجتمع الاستاتيكي المغلق فيها والمعتمد على ذاته، وبين العالم الغربي الفاعل». ثلاثة شهور لا تكفي لدراسة أنثربولوجية لقرية.
في العام 1964 توقفت أعمال البعثة الدنماركية الأولى للتنقيب عن الآثار في البحرين. ويصف منصور بن محمد ناصر الساري - من قرية باربار، الذي عمل بناء ومرمماً - الأيام الأخيرة للبعثة بأنّها محبطة ولا يجد لما حدث أيّ تفسير. فبعد العناء والتعب والجهد الذي بذلته البعثة والعمّال المحليون في رفع الكثير من أكوام الأتربة عن مواضع كثيرة في معبد باربار، واكتشاف عين الماء المقدّسة المتصلة بعين أم السجور في قرية الدراز بأفلاج تصل إلى رأس رمان، بعد كلّ ذلك أهالوا التراب على الكثير ممّا اكتشفوه، ونبشوه. لقد دفنوها وصارت مرّة أخرى تحت الأرض. ولا يجد الساري أي تفسير لذلك. تماماً مثل كثير من العمّال المحليين الذين نزلوا ينقبون تحت الأرض عن آثارهم فاختفت سيرهم فوقها.
وصف
«العمل مع الدنماركيين متعب لكنّه دقيق فالعربات اليدوية لا تُساق فوق الآثار ولا أماكن التنقيب ولا عمل حين يسقط المطر خشية أن ينهار جزء على العمال». الحاج ميرزا بن مبارك منتقداً ما آلت إليه الأمور بعد بدء الجهات الرسمية في العمل في الآثار.
«كان الناس يأخذون الرمل من الساحل الشمالي للبناء فخرجت ليهم أسطوانة وتحدثوا عنها حتى وصل الأمر للبعثة. كانت من معبد باربار ولا أحد يعرف كيف وصلت للساحل». الحاج منصور الساري
«ماذا يفعل هذا الرجل عند البحر كلّ يوم؟ في ماذا يشخبط؟ ماذا يرسم؟ كل يوم كل يوم عاد؟» عبدالله بن مالك الدرازي يسأل عن رسّام البعثة الفنان كارل بوفين المعروف لديهم بـ «كالا».
منصور الساري: تدفق علينا الماء في معبد باربار وكان ممتلئاً بنوى الرطب
من مهمات جاسم بن زيد خياطة وإصلاح الزبلان
ابن مبارك: لم نر فيهم متكبراً، يأكلون من طعامنا، ويحضرون أعراسنا، وتزور نساؤهم نساءنا
ميرزا بن حسن مبارك: كنّا مملوكين لآبائنا، نسند أجسادهم بأجسادنا ونقوت كي لا نموت
|