لا فلسفة ولا تقريب ومجتمعنا يتلقى النظريات بلا استعداد علمي وثقافي
بالتعاون مع مأتم النعيم الجنوبي عقدت جمعية الرسالة الإسلامية ندوة في 23/8/2005م بعنوان ( الإمام علي ..رؤية معاصرة) قدمها الأستاذ كريم المحروس ، جاء فيها قسمين من الحديث :
الأول : عن علم الإمام علي(عليه السلام) وطبيعة المجتمع في العراق في مرحلة حكمه.
الثاني: كيف ندخل في مشكلات هذا العصر برفقة علم الإمام (عليه السلام) وفكره .
فقد بدأ الأستاذ كريم المحروس ندوته بالجملة المشهورة للإمام علي( عليه السلام) : {سلوني قبل ان تفقدوني} وتفصيل خطبة الإمام علي استكمالا وتفصيلا لهذه الجملة العظيمة :
يا معاشر الناس !.. سلوني قبل أن تفقدوني .. سلوني فإنّ عندي علم الأولين والآخرين ، أما والله لو ثُنّيت لي وسادة فجلست عليها ، لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول : صدق عليٌّ ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ ، وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الإنجيل فيقول : صدق عليٌّ ما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ ، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول : صدق علي ّما كذب ، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ ، وأنتم تتلون القرآن ليلا ونهارا ، فهل فيكم أحدٌ يعلم ما نزل فيه ؟. ولولا آية في كتاب الله عزّ وجلّ ، لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائنٌ إلى يوم القيامة ، وهي هذه الآية : {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب}
وكانت استجابة الناس لكلمة الإمام (عليه السلام): {سلوني قبل ان تفقدوني} على نوعين :
الأول: من سأل الإمام عن الله وصفاته وعن مدى استطاعة الإنسان رؤية خالقه.
الثاني : من سأل عن آخرته وسبل النجاة من النار .
وقد تميز الإمام بكلمته المشهورة {سلوني قبل ان تفقدوني} فلم يقلها احد قبله ولا بعده. ففي الاستيعاب بسنده عن سعيد بن المسيب: (ما كان احد من الناس يقول سلوني غير علي بن أبي طالب).
وروى أبو جعفر الاسكافي في كتاب نقض العثمانية بسنده عن ابن شبرمة انه قال : (ليس لأحد من الناس أن يقول على المنبر سلوني إلا علي بن أبي طالب) .
{سلوني قبل ان تفقدوني} كجملة خطابية عامة توحي في علاقتها بالمجتمع المعاصر للإمام (عليه السلام) إلى أمرين :
الأمر الأول: أن قائلها ربما يكون متكبرا على مجتمعه ، والحال أن الإمام حينما قيل له أن فيك كبر ، قال : (إن فيّ عزة، ولله العزة وللمؤمنين).وإما ان يكون متقدما على مجتمعه ، وهذا يعد بعدا عن المجتمع وبيئته وطبيعته ، والحال أن الإمام (عليه السلام) إمام في ذاك المجتمع ومتقدم في علمه ، فمن الأولى أن يعلم علما تفصيليا بطبيعة مجتمعه ومستواه العلمي والفكري ومستوى الخطاب الذي يوجهه، فهو القائل:
)فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا نبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً ويموت موتاً(.
وعن سلمان أنه قال (عليه السلام): (عندي علم المنايا والبلايا والوصايا والأنساب وفصل الخطاب، ومولد الإسلام ومولد الكفر، وأنا صاحب الميسم، وأنا الفاروق الأكبر، ودولة الدول فسلوني عما يكون إلى يوم القيامة، وعما كان قبلي وعلى عهدي وإلى أن يعبد الله).
لكن الإمام يخاطب الناس على قدر عقولها : (انّا معاشر الأنبياء امرنا أن نكلم الناس على قدر عقولها).
الأمر الآخر : أن المجتمع الذي ينصت إلى الإمام كان مستقرا ومكتفيا بما عنده من امن وعلم .والحال أن الأسئلة التي وجهت إلى الإمام بعد ذلك كانت بسيطة تنم عن عدم اكتراث بالامام علي(عليه السلام) إماما .والمجتمع لم يكن مستقرا بل كان في حروب متقاربة على مدى خمس سنوات من حكم الإمام ..ويعلم الكثير منهم علم اليقين بمن هو الإمام المفترض الطاعة والأحق بأن يتبع ، ولكن الأطماع هي الأطماع ، والهوى هو الهوى ، وحب الدنيا رأس كل خطيئة .فهناك من المسلمين من كان يرمي السهام خلال معركة الجمل على الفريقين وأينما أراد، لان كل نصر بين الطرفين – في اعتقاده- هو نصر بالنسبة له.
أين نبحث عن اثر الإمام في التاريخ .. ؟
نبحث عن الإمام (عليه السلام) من خلال قصة نشوء التشيع؟
يقول ( أبو حاتم الرازي ) في كتابه ( الزينة ) : ( انَّ أول اسم ظهر في الإسلام على عهد رسول الله هو الشيعة ، وكان هذا هو لقب أربعة من الصحابة ، وهم : أبو ذر ، وسلمان ، والمقداد ، وعمّار ، ويُنقل عن سلمان انَّه قال : بايعنا رسول الله على النصح للمسلمين والائتمان بعلي بن ابي طالب والموالاة له).
ويقول أبو سعيد الخدري: (أمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة. ولما سئل عن الأربع قال:الصلاة والزكاة والصوم والحج. قيل فما الواحدة التي تركوها .قال: ولاية علي بن أبي طالب. قيل له: وإنها لمفروضة معهن؟ قال: نعم هي مفروضة معهن).
وهناك الكثير من الروايات التي تؤكد على ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ووجوب إتباع أهل البيت ( عليهم السلام) ولكن الوقائع في عصرنا الراهن كما هو في العصور السالفة، ونسبة عظمى من المسلمين تتعمد ذكر غير علي (عليه السلام) بإسراف ، وتتجنب في نفس الوقت ذكر أمير المؤمنين(عليه السلام) : فيقال طعنا في امير المؤمنين بشكل غير مباشر :
*أن التشيع ولد مع أول انقسام بعد السقيفة، ليقال أن الشيعة رد فعل على حق علي (عليه السلام) السياسي فحسب .!
*ان التشيع ولد خلال ولاية وخلافة علي (عليه السلام) فيقال ان الشيعة أتباع القوة ولا وجه شرعي لهم في مبدأ السنة.
*ان التشيع ولد مع حادثة الخوارج في صفين في قبال الخوارج ليقال أنهم فعل سياسي مناهض لكل من ناهض خلافة علي (عليه السلام).
*ان التشيع ولد مع انقلاب معاوية على الإمام الحسن (عليه السلام) لنصرة الحسن ودعم موقفه السياسي..
*ان التشيع ولد على اثر مقتل الحسين (عليه السلام) للثأر لدم الحسين.
*ان التشيع ولد على عهد الصادق (عليه السلام) في قبال المذاهب الأربعة، وهذا الرأي يعد اكثر استعمالا عند المناهضين لعلي(عليه السلام).
*وتطرف البعض ليقول بأن الشيعة اثر يهودي ولدور قام به عبد الله بن سبأ ، وهو الشخصية المختلقة في التاريخ.
من هنا نؤكد – والقول للأستاذ المحروس- على أن هناك محاولة لطمس إمامة علي (عليه السلام) في واقعنا المعاصر من خلال تحديد هوية التشيع ومولده ومن خلال محاربة التشيع بمبررات لا تمثل الحقيقة وتضمر سوء لإمامة علي (عليه السلام).ومن خلال نفي نشوء التشيع على عهد الرسول(صلى الله عليه وآله) ومباركة ورعاية منه ليمثل الفاصل بين كل ما يمثل الإيمان وما يمثل الإسلام السطحي.
إن ذلك يدعونا ويحملنا مسؤولية تبني شعار (البحث عن الحقيقة) وأتباعه وفق منهج علمي حضاري معاصر :
وللبحث عن الحقيقة علينا الوصول إلى:
*حقيقة علي (عليه السلام) من خلال القراءة والثقافة في حياة علي (عليه السلام).
*وحقيقة مناوئيه: كان المنافق يعرف من خلال معاداته لعلي وبغضه له.
شعار ( البحث عن الحقيقة)
إن شعار {البحث عن الحقيقة} هو أفضل وأجمل شعار ، ولا نخاف من الالتزام به أبدا لسببين:
1- فنحن ابناء الدليل ونملك الحجة الكبرى.
2- وعالم اليوم عالم التكنولوجيا والتقنيات والمواصلات والاتصالات المتطورة والمتسارعة، فلا نخاف من استعراض أدلتنا ومصادرنا ووثائقنا ، وأصبح كل ما لدينا مكشوفا ومهذبا وغنيا ومحكما ، وحجتنا لا يرقى إليها أحد من الفرق الأخرى .
قواعد لابد من تحقيقها في أوساطنا قبل ممارسة هذا الشعار:
اولا : علينا إن نوازن بين النظرية والبيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية، فنحن لسنا كعلي (عليه السلام)علماً وتقوى
.
نحن مجتمع تدخل فينا النظريات ونحن متأخرون عنها جدا ولا نملك منهجا سليما لبثها في مجتمعنا.. هناك الشيوعية والقومية والبعثية والإسلامية بشكلها المعاصر وفدت الينا بشكل سريع جدا بدون أن نعد لها العدة.
فغالبية الإسلاميين الحركيين في عالم التشيع تأثروا بحزب التحرير الإسلامي الذي أنشئ في الأردن، وبحركة الأخوان المسلمين التي نشأت في مصر ، ولم يستقل الإسلاميون الشيعة بنظرياتهم .
ولابد هنا من ذكر مسألتين :
المسألة الأولى: ولاية الفقيه الفرد وولاية الفقيه الشورى : خرجنا من الولاية العامة إلى الولاية المطلقة بشقيها الفردي والشوري بلا استعداد علمي وثقافي واجتماعي، واستعملنا في ذلك أدوات وعناصر الولاية العامة بلا أي تمهيد وتهيئة ونظام اجتماعي حضاري متقدم . فعالم الدين مثلا في الولاية العامة هو نفسه في الولاية المطلقة بلا أي تجديد في منهج دراسته الحوزوية وثقافته الاجتماعية بما يتناسب مع التطوير المعرفي والعلمي وقصر المسافات بين مجتمعات العالم وتوافر سبل الاتصال بأشكال متساوية عند الجميع .وبما يتناسب وصلاحياته المطلقة .
فحين اعد العالم الصواريخ للحروب العسكرية كانت بلا توجيه دقيق لتصل إلى أهدافها ، ولكنها حين استخدمت في صناعة المكوك الفضائي الذي أصبح مأهولا ويحمل رواد فضاء ؛رفعت درجة التقنية فيه بحيث تكون درجة الخطأ دقيقة جدا يصعب حسابها حفاظا على سلامة الرواد وكسبا للمال والبحث العلمي . بمعنى أن الهدف تطور من صناعة الصاروخ فتطورت معه سبل البحث العلمي ووسائل التصنيع والموارد المخصصة لتنفيذ خطط التصنيع. بينما لجئنا نحن إلى نظرية ولاية الفقيه بشقيها الفردي والشورى بنفس العناصر العلمية والثقافية والبشرية بلا أي تطوير وتحديث، ما جعلنا نتخبط في حركتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية ، ونمت فينا الحزبية الحادة بلا ضوابط ، فتصارعنا على المساجد والحسينيات والمؤسسات الدينية وتقيدنا بفكرة القائد الفرد الصمد.
واقعنا اليوم مرير جدا ، ومن سوء استعمالنا للنظريات فصمنا أهم فئة في المجتمع ألا وهي الفئة الوسطى، واعتدنا على بناء مجتمعنا على مفهوم الجماهيرية المجردة المتحركة بواسطة القائد أو الجمعية بلا فئة مستقلة تمثل الرقابة والنصح ، وجندنا كل الطاقات والإمكانيات لمعركتنا مثلما جند العرب كل الطاقات لحروبهم فجمدوا عقول الناس وحياتها الطبيعية (فلا صوت يعلو صوت المدفع) . فتسبب عن ذلك :
أ - عدم تبلور الزعامة والقيادة بصورتها السليمة ، وظل وجودها شكلا سياسيا مصطنعا.
ب-هروب عناصر النخبة الوسطى إلى الانعزال أو الارتزاق أو التبعية. فاستحال مجتمعنا إلى تكوين يمثله (القائد العقل المجرد ، والجماهير الوسيلة المجردة).
ج- شيوع ظاهرة التبعية السياسية المراهقة بين فئة الشباب ، وهي فئة تشكل أكثر من50% من مجتمعنا زجت في مشاكل جانبية بسيطة واستعملت بغباء مفرط.
د- تنامي ظاهرة صراع الأقطاب لصالح فكرة القطب الواحد، فكل يوم يمر يبشر بصفعة من هذا القطب للآخرالمنافس.
المسألة الثانية: مسألة مشروع التقريب بين المذاهب الاسلامية : نشأ هذا المشروع على نيات صادقة بلا حساب للموازين السياسية والفكرية التاريخية والمعاصرة، واستمر هذا المشروع منذ زمن ولم نصل به الى افق حل ، وكل يوم يمر على هذا المشروع فهو يزداد تطرفا وحدية ، وكله محاضرات وندوات استعراضية للافكار واللآراء ، وكل واحد من حاضري هذا المؤتمر يضمر تطرفا لصالح مذهبه. والحال ان مفهوم التوازن ظل في غير صالح التشيع، فالفرق الاخرى تمتلك نظاما سياسيا وخبرات ثقافية عمرها 1400عام ، ولها من الامكانيات الهائلة ما يغطي على الحقيقة ويفسدها. فكأنك ترمي بقطرة من ماء نقي في محيط وترغب من المحيط ان يصبح ماء زلالا بقطراتك.
حتى ان احدى الدعوات الشيعية العملية المنادية بالتقارب بين المذاهب نشأت في بيئة كان عدد الشيعة فيها 20الفا ، وبعد 20 عاما اصبح الشيعة في تلك البيئة 5 آلاف فقط.
ثانيا : تنقية التشيع من آثار العلوم النظرية اليونانية القديمة كالفلسفة.
لا نختلف في اهمية الفلسفة كعلم مستقل ، ولا خلاف في فائدته على صعيد تنظيم التفكير والمنهج بشرط استقلاله عن علومنا الدينية.
فخطورة الفلسفة انها اذابت مفهوم التوحيد في اليهودية والمسيحية وتداخلت اليوم على مفهوم التوحيد عند التشيع. فقد اخرجت الشريعة الى الطريقة ( توجيه المرشد) ومن الطريقة الى الحقيقة( الذات الانسانية ظلال الله فليس هناك ممكن الوجود وواجب الوجود، فالاول هو التالي والتالي هو الأول ، فهما عاشق وعشق ومعشوق فكلاهما وجود واحد على مبدأ ابن عربي وملا صدرا في وحدة الوجود).
لقد تبنت الفرق الأخرى الفلسفة طريقة ثم عادتها فكُتب(تهافت الفلاسفة) على يد الغزالي ، ثم نقلوها إلى التشيع في ثوب جديد حتى سادت حوزاتنا ومدارسنا ومؤسساتنا الثقافية، حتى قال قائل بجهل في بلادنا أن الشيخ ميثم البحراني كان فيلسوفا ، والحال انه والمقربين منه هم من ألد أعداء الفلسفة وروادها وأتباعها ، فقد فهموا اهتمامه بعلم الكلام خطأ ، فعلم الكلام يستخدم أدوات الفلسفة لرد المتفلسفين والزنادقة ولا يتبنى الفلسفة خصوصا في معالجتها لمباحث التوحيد.
هذا هو ملخص كلمة الندوة القيمة التي ألقاها الأستاذ المحروس . وبعد انتهائه من إلقائها شارك الحاضرون بأسئلتهم في هذه الندوة الغنية بالمعلومات والأفكار .
مداخلة: سيد جعفر العلوي
مداخلة: نادر النشيط
|