بسم الله الرحمن الرحيم
عشر بحرانيات من وحي العشرة (6) : يوم لا يتسع لنا العذر في معايبنا العقدية
تميز أبناء جزيرتنا في العصور المنصرمة بميزة الاعتماد الكلي على ثقافة عالم الدين في كل جوانب العقيدة وفروع الدين ، ما شكل ذلك محفزا لشخصية عالم الدين على أداء أفضل وأحسن الأدوار المنوطة بمهامه الدينية ، وعلى صرف كل ما في وسعه من طاقه وجهد في سبيل كسب حسن ظن الناس وأساتذته من كبار العلماء به، فانكب على حفظ المتون والشروح على المتون في العقيدة والفروع ، واستغل كل دقيقة من وقته الثمين في التعرف على كل مستجد ووافد في المهمات الفقهية والعقدية وما يصدر عنهما من أفكار متفاعلة مع المحيط الاجتماعي والثقافي .
ولكن الملاحظ من خلال القراءة المتأنية لمراحل تاريخية قريبة مضت: أن عامة البحرانيين والى جانبهم الكثير من علماء الدين ، قد ضمرت فيهم تلك الميزة وذلك الحس الكبير في معانيه الشريفة ، فاقتصرت اهتماماتهم على جوانب الفروع لوحدها وبموضوعاتها المجردة والجامدة في بعض الأحيان . فيعود عالم الدين من معاقل الحوزات العلمية وهو مثقل بموضوعات الفقه والأصول ومناهجهما بدون إحاطة مناسبة لمادة العقيدة وثقافتها على نهج أهل البيت(عليهم السلام) وما تشتمل عليه في موضوعات الاحتجاج في" علم الكلام القديم " المستقل عن الفلسفة والتصوف.
ولا غرابة في القول بأن جدل البيضة والدجاجة يثور دائما بمسؤولية في الأوساط العلمية والثقافية بيننا في مثل هذه المسألة الخطيرة وفي مثل هذا الوقت الحساس جدا، فيتساءل المرء بين أقرانه في الغالب :هل كان السبب الأول في الضعف الثقافي في جانب العقيدة في بلادنا هو ابتعاد عالم الدين عن مادة"علم الكلام" و" علم الكلام المقارن" لكونها مادة عصية على الاستيعاب وتتطلب إحاطة تامة بمجموعة من المصطلحات المعقدة والأجنبية عن التفاعلات اليومية في العلاقات الإنسانية البينية في البلاد ، مثلما تتطلب ذهنية حافظة للمتون والشروح لنصوص أهل البيت(عليهم السلام) قادرة على إشهارها حججا أصيلة ضد النظريات الفلسفية والصوفية غير السليمة ، ما ساهم بشكل مباشر في عزوف عالم الدين عن دراسة مادة العقيدة والتوقف عند البسيط والضحل من معارفها مما تقدر على استيعابها الأذهان الواهنة أو الكسولة ؟! أم أن الأمر يتعدى ذلك فيعود إلى الأدوار غير المسؤولة لعامة الناس التي جعلت الدين صفة هامشية ففضلت تقبل أيسر المعارف النظرية وأقلها مشقة على الذهن حتى استسلمت للمثل الدارج القائل:( أرمها في رقبة العالم واطلع منها سالم). فلا كانت في رقبة العالم ولا في رقاب عامة الناس ، فأين ستكون السلامة ومن أين؟!
ولو شئنا التعرف على مستقبل معارفنا في الشأن العقدي ، فإن حقيقة خطيرة كبرى ستفد إلى أذهانا، مفادها : بأن خطر الجهل بالعقيدة في مثل هذا الزمن المعقد بسياسته وساسته ، وبثقافته ومثقفيه ، وباجتماعه واجتماعيه ، وبالتباين الصريح بين فئات الساسة والمثقفين والمتدينين ، و ببزوغ الكثير من مناهج البحث المطالبة بالعودة إلى قراءة الدين قراءة (تفكيكية) فلسفية أو صوفية سوفسطائية أو سلفية ،سيجرنا بلا تردد إلى الترحيب بنظريات ووقائع وأفكار لا صفة حقيقية وسليمة لها إلا في كونها حجبا تحد الأذهان عن الوصول إلى المعرفة الحقة بالأصول :بالخالق ووحدانيته وعدله ، وبالنبي (صلى الله عليه وآله) وبقدسيته ووظيفته ومختصاته، وبالإمام(عليه السلام) الحبل الممدود وعدل القرآن وثاني الثقلين، وبالمعاد بعد فناء العالم وعودة الحياة للناس ليجزى كل بما عمل في دار الدنيا.
إن اكثر من خمسة ألوان من العقائد وفدت إلى بلادنا واستطاع البعض محاربتها و إقصائها عن دائرة الفعل ، لازالت تشتعل تحت الرماد وتنمو بين أتباع غير منظورين ، بل إن عقائد وافدة أخرى تبعتها حطت على أرض جزيرتنا ونحن خامدون على خلافات لا نستطيع التمييز فيها بين حق النقد والرأي وبين باطل الجحود والنميمة والبهتان وهتك الحرمات وإشاعة عيوب الناس الخلقية وإشهارها.والى جانب كل ذلك لا نبتغي غير وسيلة الإقصاء (الأيدلوجي)والحصار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والانغماس في هتك الأسرار ، فلا نقوى على مقارعة الحجة بالحجة بمناهج اكثر جدوى وفاعلية بما يحفظ لمجتمعنا وحدته وسلامة نموه وتطوره وتحضره. فخير للمرء أن يهدي نظيرا له من ملك كل ما طلعت عليه الشمس.
فهذا الصوفي الخطير (ابن عربي) الذي رفضه أتباع أهل البيت(عليهم السلام) والعامة من المنصفين منذ القرن الثاني عشر ،المعروف باعتقاده العميق بـ(وحدة الوجود) وبكون كل المخلوقات (عدم وظلال وأوهام) تدل على وجود الخالق وتنفي التعدد بين خالق صانع معبود ومخلوق عابد حادث ،والمخلوق عنده هو (الخالق) والعكس صحيح . وهو المتظاهر باعتقاده الخاطئ فيما أورده في كتابه ( العواصم من القواصم) بأن الإمام الحسين (عليه السلام) خارج على ولي الأمر يزيد (فقتل بشرع جده) - فهذا (ابن عربي) الجامع بين نقيضين( الفلسفة والتصوف) قد سبق الاستعمار المهيمن في بلادنا الإسلامية بنهجه المشهور والقائل:(سنخرج بطوع إرادتنا من بوابات بلادكم الشرقية والغربية والجنوبية والشمالية ،فلكم استقلالكم الشكلي التام، لكننا سنعود إلى مكانتنا وعزنا المفقود من خلال شباك ثقافتكم). فولج (ابن عربي) من شباك الثقافة العقدية عند البعض من شيعة أهل البيت(عليهم السلام) في عصور مختلفة ،وهيمن وفرض نظرياته بلا منافس أو ناقد ولسان حاله يقول : (رفضني أبناء جلدتي وهم البحر الذي أتنفس من خلاله وأركبه فأجوب على ظهره الديار ، فلم يكن لي من خيار سوى المبيت في مجاهل الكتب المقفرة ورفوف المكتبات المغبرة ، وهاهو بحري الجديد ومتنفسي يضج برذاذ الحياة : بين شيعة (مَن ُقتل بسيف جده) ومحبيه ،فيحيون اليوم ذكراه على نغم وحدتي مع الإله ، فأنا الإله فلم لا يحيون ذكري؟.. فواعجباه من جور الزمان بين صحبتي له وجوره في أوله بين أقراني ،وعدله لي بين مبغضي قتلة الحسين في آخره)!
لقد شارك (ابن عربي) هذا في قتال الإمام الحسين(عليه السلام) منذ عام(1185م حتى عام 1240) ، وكان قتاله للإمام الحسين(عليه السلام) أسوء من قتال أهل الكوفة ، لأن سيوفه على الإمام الحسين (عليه السلام) كانت عبارة عن 400 كتاب ادعى أنه ألفها بوحي من الله والنبي( صلى الله عليه وآله) ، وكأنه أراد الإيحاء لقرائه ودارسيه بأن كتبه هذه تعد وثائق ومصادر (إلهية) و(نبوية) دامغة على طريق إدانة ثقل أهل البيت (عليهم السلام) جميعا ، فألب بذلك الفرق على بعضها بما وصف به الله تعالى بأوصاف بعيدة كل البعد عن التنزيه ، فكان في التباس شديد وظاهرا في الاعوجاج لأنه اخذ دينه بالقياس . فعن الإمام الحسين (عليه السلام) انه قال لنافع " يا نافع ، إن من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في التباس، مائلا على المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج ، ضالا عن السبيل، قائلا غير الجميل. يا ابن الأزرق : أصف الهي بما وصف به نفسه، وأعرفه بما عرف به نفسه: لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، فهو قريب غير ملتصق، وبعيد غير منفصل، يوحد ولا يبعض ، معروف بالآيات موصوف بالعلامات لا اله إلا هو الكبير المتعال".
أفلا تستحق عقيدتنا ومناهج فكرنا من عالم ديننا الموقر ومن مثقفينا أن يعي كل واحد منهما خطورة الانحرافات الوافدة فيوطن النفس على بذل الطاقات الذهنية وتجريدها من مثل الاعتقادات الدخيلة وغيرها من مثلها وتحصين اتجاهات مجتمعنا الفكرية ضد نظرياتها وتصوراتها الشيطانية المنحرفة ؟.
ألا يستحق مجتمعنا أن نشيع بين أوساطه ثقافة الحوار ، وثقافة إلزام النفس بالحجة البالغة.
ألا يستحق مجتمعنا عالما ثقافيا يغزو كل بيت بالمؤلفات والمطبوعات وغيرها من وسائل إشاعة الثقافة المجدية، والاستعانة بها عوضا عن مذاهب ضعفاء العقول التي لا وسيلة لها إلا وسيلة العاجزين؟.
|