بسمه تعالى
عشر بحرانيات من وحي العشرة :(5) جزيرتنا تضيق بساسة الشعائر
يجعل البعض منا نفسه ناطقا باسم التشيع فيصنع من ذاته حارسا سياسيا وأمنيا مخلصا مدافعا بطريقته الخاصة وفق مقتضيات وظروف تعيشها جماعته أو فصيلته التي تؤويه بدون أن يحرر هذا البعض ذاته من هوى الشياع المفيد لتعدد الرأي، وبدون أن يَنشِّط ذاكرته جيدا أو يحرك نظره في مختلف الاتجاهات الفقهية والتاريخية أو الثقافية و العلمية . فإن ناقشته وقلت :
(إنك لمن الجاهلين الهائمين على وجوههم فلا ترى إلا أنصاف الوجوه).
قال لك بأحاديث المتعالمين :
(لا أنا من " العارفين" وكل "عارف" له رب يؤدبه فيحسن تأديبه فيطلعه على عالم الكشف والشهود) .
وإن تخيرت فقلت له :
(إنك لَمِن لا برهان له ولا نظر ).
قال مبتهجا متغطرسا:
( أنا من " العالِمين" وكل "عالم" له إله يطلعه على وحي وإلهام منه ، فأين أنت من كل ذلك؟!).
وغالبا ما يعبر هذا البعض عن خشيته من المذاهب والأهواء فيتسم بالحذر الشديد إزاء تحولات محيطه السياسي والاجتماعي الموبوء ، فتراه حريصا كل الحرص على طمس رموز وشعائر مذهبه ومعالمهما الاجتماعية وآثارهما الفكرية والثقافية بدواعي "التقية" أو"حفظ السمعة" ، كما تراه وقد بالغ في دعوة مريديه واتباعه على العمل الجاد على رعاية "التقية" في موضعها و"السمعة" في موضعها ، وفي أكثر صورهما حدة وتطرفا .
ويظهر مثل هذا الأمر جليا في ظرفين :
والأول : حين تبدأ مراسيم عاشوراء في الانطلاق بين شهري محرم وصفر ، فلا ترى إلا السياسة وقد ركبت رؤوس البعض منا ، فـ"يلطم" على صدره على نغم أثر أجنبي وعلى وطأة كلمات تنتقد الصحافة ربما يكون نصها مثلا :" صحافتنه متينة ....على الآمن سجّينة ". وإذا سألته :
(لا يجوز "اللطم" إلا على مصائب أهل البيت( عليهم السلام) ولك الحرية في قول ما تشاء بلا عزاء و"لطم").
يرد عليك ناهرا :
(إن الفتاوى أجازت رفع الشعارات السياسية وغيرها في مواكب العزاء) .
فتنصحه بالقول :
(إن الفتاوى أجازت الشعارات لوحدها ولم تجز " اللطم" على كلماتها وأنغامها).
فيرد للمرة الأخيرة وهو مولي ظهره لوجهك :
(العزه عزانه ولكل مقلِد مقلَده ولكل مرجعٍ فتاواه).
البعض منا يشهر سيوف قصائده و أقلامه لمحاربة الشعائر تحت شعار المحافظة على "سمعة " المذهب من كل قول أو رأي أو فعل . فإن قلت لهذا البعض :
(إن لكل مقلِد مقلَده وان لكل مرجعٍ فتاواه).
رد عليك بثقة المهيمنين :
(لا بد من الالتزام بالفتاوى "الحضارية الحديثة" في هذا الشأن!).
وان قلنا :
(بأن "الفتاوى الحضارية" التي تراها، تحرم أيضا "اللطم" و" الصنكل" وكل الشعائر ، فتصف ممارسيها بالمجانين كما في فتاوى السيد محسن الأمين العاملي ، فلماذا جزأتم ولم تشملوا ، فالأمين اكثر منكم حضارية وله حق نقدكم والتشنيع عليكم مثلما تنتقدون وتشنعون على غيركم أفعالهم في الشعائر ).
فيرد بالرأي الأول فيقول :
(إن لكل مقلِد مقلَده وان لكل مرجعٍ فتاواه)!
والآخر: حين يعزم ركب البحرين على ركوب طرق الأراضي السعودية لأداء فريضة الحج أو العمرة ، فلا ترى تربة حسينية ترافق الحجاج في صلواتهم ، ولا عمامة يعتمرها سيد أو شيخ مرافق أو مرشد ، ولا كتاب دعاء كـ" مفاتيح الجنان" مثلا يكون سندا ومعينا على أداء الأعمال العبادية على أطهر بقاع العالم وأقربها إلى ساعة الغفران والعفو الإلهي.
نعم ، ربما كان العقد الماضي وما قبله من العقود اكثر تعقيدا بالنسبة لرموز مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، حيث وجدنا الحرب ضد كل رمز مذهبي أو ضد كل أثر مخالف لفتاوى مذهب الوهابية السلفية وقد استعرت إلى حد الجهالة ، وان أجدادنا الماضين احتاطوا فآثروا التراجع على باب تطرف الآخر . لكن الظروف الحالية ليست على حال ظروف الأولين ، وبحاجة إلى الكثير من الوعي ، والتأمل ، والقراءة بشكل آخر . كما أن هذه الظروف تدعونا إلى تشغيل أدواتنا السياسية للضغط على السلطات السعودية والمساهمة في فك الحصار على حرية العبادة عوضا عن الانتظار حتى يأتي التغيير والتحول بمن لا علم لنا بنفسه الطائفي ولا ضمانة فيه.
والغريب في هذا الأمر ، أن السعوديين خففوا من وطأة رقابتهم وتفتيشهم عند الحدود السعودية البحرانية وأوقفوا أغلب خطاباتهم ضد شيعة مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، لكن بعض الحملات البحرانية التابعة لبعض الجمعيات السلفية تمادت في شن حملات التعبئة الطائفية لحجاجها على مسمع ومرأى من وفد البعثة الرسمية البحرانية والقائمين عليها ،تدعوهم فيها إلى عدم الاختلاط بأتباع مذهب أهل البيت( عليهم السلام) ، فهم أهل بدع في الدين.
إن حديث " سمعة المذهب" في الشعائر لا أساس له في عالم التطور والتصور العلمي ولا ينهض ليشكل مبررا ومحرضا ، إنما هو من وحي اعتقاد وتوهم حزبي سياسي مستوحى من خليط آراء فلسفة صوفية قديمة توهمت في عالم الكشف والشهود بأن الحسين (عليه السلام) قتل بسيف جده . وأين هذه الأوهام من وقائع العصر ومناهج البحث؟!
ففي كل عام تستعرض محطات التلفزة البريطانية مثلا تقارير وتحقيقات مصورة رائعة عن شعائر محرم يمارسها بريطانيون متوجهون إلى كربلاء المقدسة ، تحمل كل احترام وتقدير للإمام الحسين (عليه السلام) واتباع مذهب التشيع ، وتقارن بمثيلاتها التي تجرى عند المسيحيين في مناسبات إحياء قصة صلب " المسيح" وعروجه إلى السماء.
وتطلق هذه التحقيقات والتقارير على ممارسي الشعائر الحسينية والمسيحية أسماء ونعوتا جميلة كـ" عشاق الحسين أو المسيح" أو" عشاق الإله والعقيدة" أو " الذائبون في حب الله ". والى جانب ذلك لم نجد أحدا من معتنقي التشيع والمدافعين عن "حضارية الشعائر" بادر إلى صناعة تقارير وتحقيقات مصورة عن الشعائر بأجمل وأحسن وأدق مما تضمنته تلك التقارير والتحقيقات التلفزيونية البريطانية.
والغريب في هذا الأمر ، أن الكثير من المثقفين والأدباء والمفكرين في عالمنا الإسلامي يحللون في ظاهرة الشعائر الحسينية فيصفونها بـ"التظاهرة الحضارية المقدسة القادمة بدمائها من عمق التاريخ لتحل في واقعنا قيما ومبادئ سامية صادق لا بد لها وأن تحقق نجاحا منقطع النظير في دحر مراحل تاريخية غير شرعية وخارجة على الحقيقة المطلقة ، إلى جانب تبيان مراحل تاريخية أخرى كانت اكثر اندماجا مع الحقيقة المقدسة المطلقة . وبهذه الظاهرة الحضارية ومنهجها سيعاد صياغة التاريخ صياغة مثالية فيها كل مقومات بناء المدنية الحضارة الفاضلة" . لكن البعض من أنصاف مثقفينا وروادنا " الحضاريين المطلقين" يصنفون شعائرنا في خانة " العودة إلى التخلف ودحر الحضارية " و"تبني ممارسات مستوردة عن أسيا الوسطى لا حقيقة ولا سند لها في عالم الشعائر الإسلامية" وفيها "جلب للمضرة وتشويه للسمعة". وفاتهم أن الشعائر بأنواعها ، محلية أو مستوردة، قديمة أو مستحدثة، ليست نصا بذاتها إنما هي "موضوع" يرجع فيه إلى المجتهد الجامع للشرائط ليوظف إزاءه أدوات البحث بكلياته عن موارد الانطباق أو التعارض مع جزئيات "الموضوع".وعندئذ تصدر الفتوى بالموافقة أو المخالفة.
إن الكثير ممن نصب نفسه "حاميا "لهذا المذهب لا يعرف كيفية القراءة الصحيحة للبيئة الاجتماعية والثقافية المحيطة أو المناوئة لمذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، ولا حيثيات الأحكام ، ولا علاقة الموضوعات بالكليات والمناهج الفقهية، فيخلط بين مناخ "التقية" و"حفظ السمعة" لأسباب ترجع في معظمها إلى الحزبية السياسية قصيرة النظر، وينأى بجانبه عن مناخ الظهور والبروز والإعلان بأوجه صحيحة ثابتة الأصل، أو بين زمنهما.
فنحن الآن نعيش عهدا يتطلب منا المبالغة في التمسك بعاداتنا وثقافاتنا وتقاليدنا لأنها من نتاج اعتقاداتنا ، كما يتطلب منا المبالغة في إظهار رموز مذهب أهل البيت (عليهم السلام) لأنه منهج حياتنا وطريق سوي منصوص عليه إلى آخرتنا.فإن اعترضتنا بعض المعارضات الحزبية السياسية الموبوءة أو نالت منا سهام المناوأة من قبل جهلة العلم والثقافة ، فلأن الحقيقة أضحت بارزة المعالم لا لبس فيها ولا غشاوة عليها ، وان شعار "البحث عن الحقيقة" قد امتد إلى أعماق قصور السياسة ومعاقل العلم والثقافة في العالم وبدأ يحتل العقول ويغزوها في كل مكان ، وان جهال ساسة الأمة على غير مذهب أهل البيت(عليهم السلام) في ترنح وغير مستقر ، وتراهم يجوبون صحارى الفتاوى بلا سند فكري أو عقلي أو نصي ، وان ابدوا بعض الاعتراض فينا فهو على استحياء سيتلاشى بمجرد إصرارنا على إلزام أنفسنا بإظهار معالم مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ورموزه ، فلنأخذ الكتاب بقوة .
فهناك في بلادنا من لازال محصور الفكر بضيق الجزيرة وحزبية بعض قرناء السوء فلا يستطيع استيعاب التحول الكبير نحو مذهب أهل البيت(عليهم السلام) على شعار " البحث عن الحقيقة"، فيعتقد مثلا أن العالم الغربي يضم (خيرة) المتوثبين لمحاربة موضوعة (التخلف) في الشعائر الحسينية لكونها من آثار التخلف والهمجية الفكرية !. فهذا الاعتقاد هو من نبت الجهل والخوض مع الخائضين بلا دليل ، ومن نبت ضيق الأفق في المعارف والمعلومات لا من نبت الحقيقة الواقعة.
إن طريقنا نحو إعادة بناء رموزنا الدينية وتطويرها فرديا واجتماعيا يبدأ بخطوات التأمل في نهضة الإمام الحسين(عليه السلام) التي شقت طريقها إلى ضمائر وعقول أبناء الأمة الإسلامية في وقت الزم أئمة المسلمين أنفسهم بتقية وحذر شديدين حرصا على سلامة " الحقيقة" من الاندثار ، لكن الإمام أبى عبد الله (عليه السلام) كان اكثر الناس حرصا على دين الله عز وجل ، وتلقى رأيا ونصحا بالعودة عن موقفه في الخروج ، وقيل له أن دما سيراق بين المسلمين يكون وبالا على الإسلام ، وان سبابا من النساء والأطفال سيكونون محرضا على التقاتل بين المسلمين . فلم يبال الحسين(عليه السلام) لأن طريقه واضح وحجته سائدة . فقدم نفسه الزكية فداء لاستقامة هذا الدين بمشيئة الله عز وجل ، فأضحى دمه والسبايا الرمز المقدس الأكبر الفاصل بين مرحلتين تاريخيتين: مرحلة أولى اعوج فيها المسلمون وصمد ثقل أهل البيت(عليهم السلام) بإرادة تكوينية ربانية ، ومرحلة جديدة أخرى وعى المسلمون فيها غفلتهم فكانت بحاجة إلى تكريس رمزية نهضة الحسين(عليه السلام) وإشاعة معالمها بينهم لبناء أمة صحيحة المولد ودحر أمة قبلت بـ(برأس زبيبة) يحكمها .
إن على كبار قومنا أن يكفوا عن تقييد الاتباع حال تطلب الأمر منا إظهار وإحياء شعائر الدين ورموزه بالصور الشرعية المختلفة، وان يكفوا عن إشغال البلاد بما يبطل العزائم والطاقات الفردية والاجتماعية المسخرة للإبداع في فن إشهار الرموز العاشورائية ، فيكفينا نقصا سلوكيا في الذوات، ويكفينا تعويضا مراهقا في العقول. |