يمر ذكرى الإحتفال باليوم العالمي للمرأة، الذي يصادف الثامن من مارس لعام 2013، مع استمرار فصل وإيقاف عدد من الموظفات البحرينيات من أعمالهن، بسبب الأحداث التي شهدتها البحرين خلال العام 2011. وشاءت الأقدار أن تكون لي مشاركتي ضمن تلك الفئة.
تسبب الفصل التعسفي لي بالكثير من المعاناة الشخصية، منذ صدور القرار بذلك في 3 يوليو 2011 وحتى 31 ديسمبر 2011 أي فترة ستة أشهر، معاناة على مختلف محاور حياتي. بدأ ذلك بالتحقيق المبدأي الذي تم أربع مرات في داخل العمل من قبل اللجنة المشكلة، وتلاه التحقيق مرتين في ديوان الخدمة المدنية. تركز التحقيق حول المشاركة السياسية والتوجه السياسي، ولم يتطرق إلى لأي مخالفات إدارية والتي يفترض أن تعتبر قانوناً صلب التحقيق ليس إلا.
بتاريخ 3 يوليو 2011 تلقيت اتصالاً يفيد أهمية الحضور للجنة التأديبية التابعة لديوان الخدمة المدنية كما تم إستدعاء حوالي خمسة عشر موظف تقريباً في ذلك اليوم، وتم ايقاف الجميع عن العمل لفترات مختلفة. جاء دوري وتوجهت للقاعة وجلست بطاولة يقابلني رئيس اللجنة المعنية وآخر يدوّن ما يدور في جلسة النطق بالحكم. خيل ليّ كقانونية أنني في قاعة محكمة، يتلو القاضي على الجاني الجرائم التي ارتكبها، لينتظر الحكم الذي يستحقه. تلى علي ما دوّن في أوراق عشر أو أكثر ما إرتكبته من جرائم بحسب نظرتهم لها. أفضى التحقيق في ذلك اليوم إلى فصل موظفين إثنين من الموظفين المشهود لهم بالنزاهة في العمل وأنا ثالثتهم. جاء الحكم عليّ بفصلي من عملي نتيجة أفعال قمت بها أراها ويراها الجميع وحتى المجتمع الدولي قبل الوطني حقوقاً إنسانية يقرها دستور بلدي وليست بالأفعال الشائنة، فما هي إلا المشاركة في الإحتجاجات، والمشاركة في مسيرة، الذهاب لدوار اللؤلؤة.
منذ بداية التحقيقات في شهر مارس 2011، كنت قد هيأت نفسي، استجمعت كل شجاعتي، رتبت ميزانيتي، انحسرت مشترياتي بشكل ملحوظ، وخلال ثلاثة أشهر حتى يوم فصلي جمعت مبلغ من راتبي يمكنني من العيش دون عوز لفترة لا يعلم بها إلا الله إلى متى ستدوم وإلى أين ستصل؟
ثم بدأت سلسلة المعاناة اليومية فقد حرمت من كل مستحقاتي المالية ولم يصرف لي راتب لمدة ستة أشهر، وأصبحت بدون وظيفة بعد أن كنت أتبوء مركزاً كمستشارة قانونية لهيئة البيئة لمدة لا تقل عن 12 سنة.
بصدور قرار الفصل رأيت الصدمة على وجوه زملائي، فطلبت منهم التحمل والصمود، والتقاط صورة تذكارية، كانت الإبتسامة تعلو وجوهنا ولكن جمودها أيضاً يعبر عن معاناة الصامدين.
غادرت العمل بعد أن ودعت زملائي وزميلاتي، جمعت حاجياتي وكتبي، وخرجت بعد أن ارتديت ثوب الحداد، فأمامي قد تحطم كل شيء. كنت مشوشة الفكر، مخنوقة، غير مصدقة ما حدث، نشدت الطريق متجهة لمنزلي رغم قصر المسافة إلا أنها أطول مسافة في حياتي قطعتها في ذلك اليوم. بدأت الإنسانة في داخلي تحدثني حول هؤلاء البشر الذين لبسوا قناع الزيف، إن لم يتقبلوني كموظفة، هل أستحق في نظرهم الفصل والعقاب وأنا أم لإبنين كيف سيعيشان من أم مفصولة وأب مفصول معتقل ومحاكم!!، تسألت كثيراً كيف تغيرت تلك الوجوه المبتسمة من حولي، من زملاء محبين إلى محققين وقضاة؟
في اليوم التالي، استيقظت في الوقت المعتاد للذهاب للعمل، ولكن أي عمل أنشد وأنا المفصولة، جلست في المنزل مقرفصة بوجنة مقتضبة ووجه عابس، وابتسامة مشوهة، تحسست أن بيتي رغم جماله أصبح ملجأ للمعاناة، عاجزة عن تغيير الذات وتغيير نفوس من تغيروا حولي. أصبحت من أمرأة تحمل شهادة عليا إلى مجرد جانية اقترفت ذنب في نظرهم، وها أنا ذا أنتظر قدراً ينشلني وعائلتي، سارت الأيام ودخلت معترك الفراغ، الوحدة دون أن أعرف للزمن قيمة، تلك الأيام الأولى دخيلة على مشاعري وفي ذلك الإحساس كنت منهكة ومحطمة وبقلب خاوي.
ورغم تجمد العقل لفترة نما بداخلي خوف على أبنائي، فقد وضعت أصبعي على حقيقة ما يزعجني، لم أنجبهما ليكونا في وطن سلب والديهما حقوقهما، في وطن لم يحفظ لهما حق العيش الكريم، فقد تحكّم القلق المشوش على مهارتي في التفكير والتخطيط الذي تعودت. لا ميزانية مرصودة وهما ينتظران المصروفات اليومية، وإحتياجات المدرسة، وما إعتادا على توفره لهما من إحتياجات وكماليات. شممت رائحة العوز الذي قد يؤدي بي، وهو جزأ مما أرادوه بي. وازداد الوضع بؤساً وإيلاماً، ولكنني باستمرار أذكر نفسي أنني قدمت قليل القليل أمام تضحيات الآخرين من اعتقالات وفصل وموت و..... أخذ أب أولادي على عاتقه المبلغ الأكبر للصرف على الأبناء من ميزانية قد جمعها لدراسة إبننا البكر الجامعية، وأنا على يقين أنها استهلكت ونفذت ولكننا ارتأينا أن فصلنا التعسفي أضاف عزة على عزتنا، وبالمقابل تعلم أبنائنا أن كل الأمور تهون أمام كرامتنا وتشبثنا بمبادئنا وحقوقنا.
لم أتغير رغماً على من أراد كسري وكسر إرادتي بل صنعت كومة صلبة من الصبر والتحمل، لسد ذلك النقص وإعادة التوازن النفسي والمادي مع متطلبات حياتي اليومية، ومع نقص ما يتبقى من الميزانية يوماً بعد يوم كنت أعيد ترتيب أولويات بتقديم نكران الذات حتى لا أمس حقوق أبنائي. ولم أجد أمامي سوى الثقة بإمكانيتي النجاح رغم ضبابية المصير. صرت لا أصرف إلا ما هو هام وشراء ما يلزم والتوقف حتى عن مجرد النظر بما تقذفه الأسواق من كماليات، وإستنفذت في سبيل ذلك كل قوانين الإحصاء والحساب الذي كنت أكرهه وأنا طالبة في المدرسة.
وسط تلاطم الأمواج تساءلت هل وضعوني بفعلتهم هذه في مأزق أم وضعوا أنفسهم في ذلك المأزق؟ هل من العدل أن تستبدل الشراكة إلى عداء والعكس؟، أهذا ما يودون تحقيقه في وسط ناس تحب بعضها البعض بكل أطيافها؟، توصلت إلى نقطة جوهرية رغم تشتت الأفكار مقابل الحرمان المادي، أن حالتي يعيشها 4500 موظف وموظفة وأنا لا أقف وحدي. بقى المأمن الحقيقي بداخلي بأنني أدركت أنني قد ساهمت بتواضع في معترك الحركة، قدمت ذرة من ما قدم هذا الشعب. قوة في داخلي أملتها علي مكونات شخصيتي جعلتني راغبة في الخروج بقوة أكبر من أجل إيجاد أرضية صلبة أقف عليها.
أخذت قرار حاسم لمواصلة دراستي العليا، ولكن من أين المال للمواصلة والسفر ومتابعة مشرف رسالة الدكتوراه، كيف، ولماذا، أين ولما؟ كلها تساؤلات استجمعتها ولكنها دفعتني لأغوص وقتها في منابع العلم وبين المراجع والكتب رغم تشتت الأفكار ولكني كنت أرى حلمي بشهادة الدكتوراه يتراقص أمام عيني، ويشعرني بأنني قريبة من نهاية الآلام ويجعلني واثقة من أن المعاناة ستنتهي ولا بد من عودتي للعمل يوماً.
وعدت للعمل، بعد ستة أشهر من الفصل التعسفي وثلاثة أشهر أخرى أيضاً بقيت دون مرتب، ومجموع ذلك هو تسعة أشهر. ولم تكن كما قد يعتقد تلك هي نهاية الألم، فقد عدت لمكتب غير مكتبي، وبدون مسمى وظيفي لمدة أربعة أشهر من تاريخ الرجوع للعمل 1 يناير 2012، استمر تهميشي وإقصائي عن مهام عملي حتى تاريخه، رغم المجهود الذي بدلته منذ عام 1999 في خدمة المؤسسة، حيث خلقت وحدة قانونية من العدم، لم يعترف بمجهودي كله، ووجهت بنكران تام بدلاً من الدعم والمباركة للتطور في مجال تخصصي بعد حصولي على شهادة الدكتوراه.
تستمر معاناتي كأمرأة كما هي المرأة البحرينية في هذا الوطن الذي نعشق، ولكن ذلك لا يمنعني أن أنهي بكلمات أبارك فيها للمرأة البحرينية التي تصدرت الساحة ولكل أمرأة بالعالم في هذا اليوم المجيد وأتمنى أن تنعم النساء بحقوقهن المشروعة من المساواة الكاملة بينها وبين الرجل وبالحرية والكرامة، وكل عام وأنتن بخير.
|