بسمه تعالى
لا يوم كيومك يا أبا عبد الله
من السهل على أي فرد منا أن يبحث لذاته عن نظرية إنسانية أو مبدأ سياسي أو قيم اجتماعية أو ثقافية يعتنقها فيتراءى له فيها سواء السبيل ، وتظهر له بين فصولها أمنيات الهداية إلى الطريق الأفضل أو الأحسن، لكن النتائج الحقيقة لا تفصح عن نفسها إلا في الوقت الضائع المتأخر .
وكم من نظرية أو قيمة إنسانية واقعية عمت عالمنا فسادت بلادا شاسعة مترامية الأطراف وكان روادها ومؤيدوها يُعمِلون فيها العقل والوجدان ليلا ونهارا وسرا وعلانية فيلمسون شفافيتها ومرونتها وانسجامها مع الطبيعة الإنسانية ، ثم يكتشفون عقب مرور جيلين أو ثلاثة على بني جلدتهم أن هذه النظرية أو تلك القيم كانت في واقع الأمر مؤيدة بالعقل والوجدان تبعا للظروف والمراحل التي ولدت فيها ، وبمجرد أن تلاشت تلك الظروف أو تطور العقل وصقل الوجدان بما استجد من مراحل بشرية متقدمة ؛ تعالت صيحات الانقلاب على هذه النظرية أو تلك القيم.
إن المستقر الفكري يظل مشككا بين النظريات والقيم البشرية دائما تبعا لأصول هذه النظريات والقيم ومنطلقاتها.مثلما ساد الأمر في قيم ومثل ونظريات بوذا وسقراط وأفلاطون وارسطو ، ثم في مدرستي الإسكندرية وجندسابور الفلسفية الدينية ، ثم في الخلافة الهرقلية على عهد الدولة الأموية والعباسية والعثمانية والأيوبية ، ثم في عهد الدولة الاستعمارية والقومية والاشتراكية والملكية اليبرالية وغيرها.
وقد قدم الكثير من معتنقي هذه القيم والنظريات والمثل التضحيات الجمة إيمانا وتسليما بها حتى جاء يوم الفصل وكشف الغطاء ، فأين السيادة والزعامة وأين المثل والقيم وتلك النظريات ؟!
كل واحد منا مؤمن بأن ديننا الحنيف سيظهره الله سبحانه وتعالى على الدين كله ولو كره الكافرون وغيرهم من مناوئيه . فهذه في عقيدتنا مسلمة ولكننا بحاجة لتجليتها وصقلها أمام عقولنا ووجداننا فلا ننسى أن " للبيت رب يحميه" كما قال عبد المطلب جد الرسول(صلى الله عليه وآله) لإبرهة الذي خرق صمت الجزيرة العربية بفيلة وجنود غفيرة قاصدا تدمير الكعبة الشريفة. ولا ننسى أن مناطق مكة والمدينة لازالت تقع على تركيب صخري غير متجانس أو غير متماثل تقوم فيها الصخور الصلبة منذ ألوف السنين على صخور هشة ، يفترض بهذه المناطق الزوال والدمار بكارثة زلزال عظيم شبيهة بكارثة سد مأرب ولكن الله سبحانه وتعالى رب البيت وكافله وحاميه ، فدمر جيش ابرهة بطير أبابيل وحفظ ارض الحجاز حتى استقرت ونمت في سلام وأمن سابغين.
من هنا يتوجب أن ندرك جيدا ونعي بأن موقفنا من ديننا وعقيدتنا ومذهب أهل البيت(عليه السلام ) ليس مماثل لموقف رواد ومعتنقي وعشاق وموالي العقائد والنظريات والقيم والمثل الإنسانية الأخرى .وأمامنا واقع قريب جدا عاصره اكثر من أربعة أجيال تمثل في استعمار واستبداد أوروبي عم بلادنا قاصدا الهيمنة على الإسلام ومن ثم القضاء عليه قضاء مبرما ، لكن الاستعمار والاستبداد اكتشف أخيرا بأنه استطاع استعمار البلاد الإسلامية وثرواتها وكل مقدراتها البشرية والمادية ولكنه لم يستطع النيل من الإسلام أو استعماره. وهذه حقيقة لمسها الأوروبيون المستعمرون وجهلها المسلمون لعقود مضت بسبب غشاوة الجهل.
وهكذا اعتقد أبو سفيان بأن بني أمية قد أصبحت والملك بيدها مع تولي عثمان سدة الخلافة ، فقال فرحا شامتا لبنيه : " تلاقفوها" . ثم جاء يزيد ليؤكد على قول جده أبي سفيان " فلا خبر جاء ولا وحي نزل إنما لعبت هاشم بالملك" وإذا بلعنة التاريخ تحل بـ " الشجرة" الملعونة في القرآن ، وإذا بمجالسنا ومآتمنا تحي ذكرى أبى عبد الله الحسين(عليه السلام) الذي انتصر عليه يزيد في نصف يوم ولكنه لم يعط يدا ذليلة ولم يفر فرار العبيد فرأى الموت سعادة والحياة مع الظالمين إلا شقاء وبرما ، فانتشت رؤوس بني أمية وحملت رؤوس بني هاشم على الرماح. وكانت عاقبة الأمور أن ظلت نجوم بني أمية الطريق فهبطت وخرجت من مجدها الكاذب وغابت في لحود اللعن والتبري.
إن دماء الحسين(عليه السلام) كانت ضرورة لاستقامة الدين وإدامته في ظرف حَكَم فيه الفاسق والفاجر وشارب الخمر وقاتل النفس المحترمة في سياق انحراف خطير ساد الأمة وقادتها منذ رحيل الرسول (صلى الله عليه وآله). وكانت دماؤه إعلانا وإنذارا من خطر تباعد المسافة بين المسلمين وإسلامهم ، فتخطى هذا الإعلان وهذا الإنذار نصف يوم من حرب غير متكافئة بين الحسين وأهل بيته(عليهم السلام) وأنصاره (رضوان الله تعالى عليهم)من جهة ، وجيش جرار وفد من الكوفة والشام ليعم الأرجاء كافة.
لم ينته الإسلام بمقتل الحسين( عليه السلام) وسيادة بني أمية، لأن وجود الإسلام وبقائه رهن بإرادة تكوينية ربانية شاءت له البقاء كما شاءت للحسين شهادته على ارض كربلاء وبالكيفية المعروفة ليقترن بقاء الدين واستقامته بدماء سبط الرسول (صلى الله عليه وآله) . لذلك جاء الحسين (عليه السلام) معلنا بأنه خرج للإصلاح في أمة جده المنكوبة عقديا وتشريعيا ، وفكريا واجتماعيا، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وفق إسلام نقي يمثله لم تنل منه نكبة الانحراف في الأمة ، فمثله لم يبايع مثل يزيد.
فلا خوف على الدين الإسلامي وعقائد أهل البيت(عليهم السلام) وشريعتهم من أية كارثة طبيعية أو إنسانية عقائدية أو فكرية أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو تكنولوجية ،إنما الخوف كله يأتي من انحرف الأمة أو جهلها بدينها. فلا حاجة لنا إذن فيمن يعلن مخاوفه على الإسلام فيدعو إلى حمايته عبر تقليص حجم وعدد الرموز الإسلامية الدالة على الانتماء لمذهب أهل البيت(عليهم السلام) كالشعائر الحسينية مثلا ، أو يدعو إلى تطويرها لإرضاء منتقديها ممن يأخذ بـ(الحضارية أو البنيوية أو العصرية) مذهبا ، أو يدعو إلى تجميد بعضها لدواعي التقريب بين المذاهب والفرق أو لدواعي سياسية حزبية قاصرة يراد من ورائها تحقيق مكاسب فردية أو شللية أو حتى نخبوية عامة .
إننا بحاجة اليوم اكثر من أي وقت مضى إلى إصلاح الأمة وليس إلى إصلاح الدين، وذلك عبر وسائل مشروعة مختلفة من بينها التأكيد على رموزنا الدينية وإظهارها بيننا وفي الأوساط الاجتماعية والثقافية المحلية والإقليمية و الدولية بلا تردد أو تهاون أو خوف وحذر .فكم من شعيرة أو رمز اعتقدنا خطأ بأنها مشوهة للدين أو مسببة لسقوط هيبة الدين وإذا بها عنوان بارز مشروع قد أثار العقول والوجدان الإنساني فعمق فينا التزاما بقيم الدين وزاد في الآخرين شوقا لاعتناق هذا الدين على هذا المذهب الكريم العظيم .
من هنا فإن إحياء الشعائر الحسينية هي من تقوى القلوب ، فلا يظن أحد منا بأن إحياء ذكرى كربلاء الحسين(عليه السلام) وشعائرها جاء ليراد به غير إصلاح ذات الأمة عامة وذات الفرد خاصة . فالمعني بإحياء الشعائر هو محييها لا غيره . والحسين (عليه السلام) يقصد بدمه إصلاح عقل ووجدان ودين كل واحد منا لا إصلاح الإسلام، فلنغرف من نهضة الحسين (عليه السلام) قيمنا ومبادئنا وأفكارنا وسلوكنا ، ولنحيي عقولنا ووجدانا ، فالأعمار قصيرة نسبة لحاجاتنا إلى عناية ولطف الحسنة التي نرجو من الله أن يؤتينا إياها في الدنيا والآخرة ، فليس كل يوم عاشوراء كما قيل ، بل لا يوم كيومك يا أبا عبد الله .
|