فارجموا المطبرين البتة نكالا سياسيا
كريم المحروس
31/12/2010م
في مطلع العقد الميلادي التسعيني التقيت بعالم دين بحراني في أحد شوارع بلاد الشتات .. تبادلنا معا السلام والتحية ثم بادرني بعتاب في رأس منكسة قائلا: لماذا العناد يا شيرازية والى متى؟!. سألته: خير إن شاء الله ؟ . قال الشيخ: التطبير .. التطبير يا محروس ، وما أدراك ما التطبير!. قلت: عجيب، وما المشكلة وأين ، أراك من المهولين لأمر شعيرة التطبير يا شيخ!.
رفع رأسه ونظر إليّ نظرة ساخرة وقال: ألا تدري ماذا حدث في الأربعين ونحن في آخر عقد من القرن العشرين؟. قلت: أنا أجتهد في متابعة حوادث البحرين ما استطعت.. في مناسبة الأربعين ربما لم أر ما رأيت أنت يا شيخ .. رأيت أناسا حسينيين يطبرون استحبابا لفتاوى مرجعية يعلمونها، ورأيت إلى جانبهم أناسا آخرين يحجمون عن التطبير إما لكراهية أو لحرمة على عنوان ثانوي يعلمه مرجعهم .. رأيت كليهما على وقار ولم أر الناس خرجت على تصورها أو أيمانها بقدسية خاصة للشعائر، وما الضير في وجود هذين الموقفين المقلدين، وماذا كان ثمن ذلك منذ عهد المتقدمين من أجدادنا والمتأخرين؟! ..أنأخذ بالمحرم منها ونطأ فتاوى المراجع الآخرين، أم نأخذ بالمستحب ونطأ المحرمين منهم؟ .. وأنت يا شيخ تعلم أن البحرين بلد صغير، والناس فيه اثبتوا منذ قرون كفاءة عالية في معالجة الأمر من خلال إكرام مبدأ الاجتهاد واحترامه.. ولولا أن الناس كانت بمستوى المسؤولية الشرعية لتهدمت أركان مجتمعنا ولم يدم لنا منه شيء، ولما كنت أنت أنت ، ولما كنت أنا أنا..أين المشكلة الآن؟! .. والناس لا همج رعاع بينهم ، ولم تداهم شعائرنا الدهماء بعد؟!.
عاد الشيخ يقاتل بالقول: لا عليّ.. ذاك عناد شيرازي ، التطبير حرام ، أتعرف ماذا تعني الحرمة في أواخر القرن العشرين ؟! .قلت للشيخ: لم أفهم ماذا تقصد وما ترمي إليه، الحرمة واحدة وكأنك لم تأت لي بقول جديد فيها يا شيخ .. الحرمة عندك وفق ما يراه محدثك أو مرجعك وفتاواه، أليس كذلك؟!.
أعاد الشيخ في هذه المرة قوله بمزاج مرجعي حاد لا يحسد عليه ، وأخذ الأمر مني بقوة لم أر مثلها من قبل: قلت لك يا محروس التطبير محرم، وأنتم شيرازيون معاندون مخالفون لفتوى ولي الفقيه. قلت له في هدوء: على رسلك يا شيخ ، ربما هناك سوء فهم منك أو مني، فلنعي ذلك أولا.. نحن لسنا معاندين لفتوى مرجعك ووليك، إنما الحق هو أن مرجعنا ولي فقيه على غير فتوى مرجعك ، وحسبنا ما يقول مرجعنا، وأنتم حسبكم مرجعكم ، وكلانا في وفاق على تقليد ساري قبل أن ترى أنت وأنا الدنيا .وكل محدث أو مجتهد استحق درجة الاجتهاد والعلم فهو مكرم عند الجميع إلا إذا كان على غير ذلك .. فأين مشكلتك تكمن؟.. لم أفهم ما ترمي إليه يا شيخ.
صاح الشيخ وامتلئ شدقاه زبدا قائلا: علمك علم السبعينات يا محروس ونحن في التسعينات ..لم تدرك بعد ما أقصده .. أنتم الشيرازية معاندون .. معاندون .. معاندون ، فكان استحقاقكم الرجم نكالا من عند الله والله عزيز حكيم.. هذا خبر ما عندي!
سماحة الشيخ خبرني بمستوى الاستحقاق من الرجم إن عاد المطبرون من كل الاتجاهات كرتهم بعد أن تبادرت إلى ذهني فيه شخصية عمر بن الخطاب وآيته التي ادعاها وقرأها كجزء من القرآن: (إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) ، فرأيت قول الشيخ مطابقا لمتنها ودلالتها لولا أنها اختصت في الشيخ والشيخة من بعد زنا. فحمدت الله تعالى في حضرة الشيخ على أمرين: الأول :أن لفظي "الشيخ والشيخة" في القرن الهجري الأول كانا على معناهما الأصليين ولم يكن لهما اصطلاح حوزوي كاصطلاحنا المتداول في أيامنا هذه .. وأنا لست بشيخ ، والشيخ هو!. والثاني: أن عمر لم يصدق على المطبرين حكم الرجم في عهده ، ولو حدث ذلك في خلافته لنشأ عندنا اليوم تشيعان: علوي وأموي.. فضربتُ عن الشيخ صفحا وذهبت إلى حال سبيلي.
ولأن مساحة في ذهني جردتها من كل أثر لانتماء اجتماعي أو سياسي أو ثقافي عزمت على مساءلتها عند انقضاء كل مشكلة لا منطق فيها ولا شرع؛ تساءلت بحياد تام: البحرين بلد صغير يتناول عند رأس كل ساعة آراءً فقهية متنوعة ومختلفة.. ومنذ قرون طويلة ونحن على هذه الحال مستقرون، لم نعرف مجتهدا أو محدثا وصف مقلدى الآخر بالعناد فرجمهم، وكان الرضا بهذا التعدد المرجعي واجتهاده من أهم مميزات مجتمعنا، ويمثل هذا التعدد فينا كفاءة عالية جدا قل نظيرها في بلاد أخرى .. تساءلت: فمن أين جاءنا سماحة الشيخ بهذا الموقف المتشدد الشاذ الغريب في شأن الشعائر الذي من شأنه تسفيه بقية فتاوى المراجع ووصف مقلديهم بالعناد باسم ولاية الفقيه، ثم يتعصب لفتوى مرجعه ويسعى لتحكيمها على ذهنه والآخرين ولو بالرجم؟! .
مضى القرن وتصرمت أيامه ، وإذا بالشامتين من الاتجاهات الأخرى يقولون لنا: كنتم تهزؤون من قولنا "إذا عطست بكين أصيبت عدن بالزكام" ، فهاأنتم واردوها!. وكنا قطعنا مع أنفسنا بالإيمان بأن مذهبنا لا يصنع همجا رعاعا ينعقون وراء كل ناعق في الشعائر المتداولة لحساسيتها بين المراجع، وإذا بجزيرتنا تدخل فجأة منعطفا جديدا خطيرا مع تطور الحال في التقليد المرجعي السياسي.. حتى الآن لم نشهد في هذا البلد شبحا لهمج رعاع لأن الصفة هذه تصعّدت منذ التسعينات عن عامة الناس فاخترقت حصن من لا يُصدق أنه رأس للهمج الرعاع وحطت فيه وجرّت من خلفه رهطا من الناس يشبهونه ويجرون على هداه وراء موكب التطبير فيَرجِمون رجم عُمر بن الخطاب!.
قضية التطبير أصبحت فرقانا.. فامتثل المقلدون جميعهم لمراجعهم بجد على نحو الحقيقة في هذه القضية ، فصار المطبرون يمثلون بموكبهم فتوى مرجعهم بجد على نحو الحقيقة الخالصة. وعندما تقف على ضفة طريق لتنظر إلى موكب التطبير شامخا في حركته، ستتبادر إلى ذهنك فتوى مرجع المطبرين شاخصة بتمام معناها الحقيقي. وعندما تشهد الراجمين للموكب يتبارون على رجم موكب المطبرين؛ فإنك لن ترى صورة مرجع المحرمين على نحو الحقيقة الخالصة فحسب ، بل سترى ذاته تتابع سيرها خلف موكب التطبير ويديه حمالة حجر تبالغ في الاجتهاد لتصيب بها على رؤوس المطبرين ما كانت تطمع من أجر وثواب!.
وبين هذا المشهد المؤسف لابد وأنك ترى موقف بعض علماء الدين في مناطق الرجم على نحو الحقيقة أيضا ـ تراهم مشاركين في الرجم وإن تخلفوا وتخفوا خلف أقنعة الأتباع الراجمين ، ثم لن ترعى لهم بعد ذلك ذمة فيما اختُلف فيه إزاء الشعائر الحسينية ، وقد تساويهم بمن سعى إلى تفجير ضريحي الإمامين العسكرين عليهما السلام بلا هوادة. |