زوايا النساء في العزاء ضحايا المقامات السياسية
كريم المحروس
23/12/2010م
واحدة من مشاهد مواكب العزاء التي مازالت عالقة في ذهني منذ نهاية عقد السبعينات: أكثر من عشر زوايا في منطقة النعيم تجتمع عندها النساء والأطفال بكثافة انتظارا لمرور موكب عزاء النعيم المهيب إذ يشترك الرجال فيه بـ{الوزرة} وبصدور مكشوفة.. قبل لحظات من وصول صدر الموكب بالقرب من إحدى هذه الزوايا؛ تتعالى أصوات النساء بالبكاء والعويل ومعهن الأطفال يضجون بالصراخ، فيزداد صدر موكب العزاء حزنا وألما وبكاء، ثم يتبعه جسم الموكب بالتفاعل مع المأساة والفاجعة في حركة العزاء.
عند تلك اللحظة، تستحضر نساء الزوايا بعفوية ووجدان خالص حال نساء وأطفال كربلاء وما لحق بهم من أذى وألم يصعب تحملهما في تلك البقعة من الأرض ، بينما يستحضر موكب العزاء القادم حال رجال العزة والكرامة والإباء من بني هاشم والأنصار يتقدم صفوفهم الإمام الحسين عليه السلام بنوره وهيبته وهو مشغول الذهن بزينب عليها السلام وما أوجب عليها من دور عظيم في حفظ النساء والأطفال ولم شملهم عند نقطة وسطى بين الخيام .. وعند اقتراب الموكب من تلك الزوايا؛ تتبلور تلك الصورة الدرامية العظيمة جدا الممزوجة بتطلعات أبي عبد الله الحسين عليه السلام في إصلاح أمة جده صلى الله عليه وآله .. وهنا تعجز مسارح الدنيا وكل مؤسسات الفن الدرامي عن صناعة مثل هذه الصورة التي يجتمع الموكب وزاوية النساء والأطفال على بلورتها تأسيا بمصاب الحسين عليه السلام.
هذه الصورة كانت تتكرر في موكب النعيم عند أكثر من عشر زوايا بين غرب وشرق وجنوب مناطقه، كما تتكرر في كل مناطق البحرين ومدنها وقرآها .. وأنا ابن العاشرة ، سمعت أحد المعزين من كبار السن في منطقة السنابس في عصر يوم العاشر من محرم وهو يصف هذه الحال: زاوية واحدة من بين تلك الزوايا التي يمر موكب عزائنا بمحاذاتها فتعلوا عندها أصوات النساء بكلمة {واحسين}؛ تكفيني لاستحضار مأساة كربلاء كاملة من أولها إلى آخرها وكأني بها تحاكيني وأراها ماثلة أمام عيني وتجري دماؤها في دمي وتعلوا دموعها دموعي.. عند هذه الزوايا تصنع أعظم المواقف تأثيرا في النفوس والعقول بلا ممثلين مسرحيين متكلفين الدور، ولا مخرج مجتهد في ربط المشاهد، ولا مسرح محدود المكان والزمان هناك. والكل من أبناء السنابس بما بينهم من وشائج اجتماعية مشغولين بالفاجعة ولم يكن أحد يشكو مشكلة بين الجنسين مطلقا.
استحضرت هذه الصورة العالقة بذهني فلم أنس شيئا منها حتى الآن، وأجريت مقارنة بينها وبين صور مواكب عزاء اليوم مع صديق لي عايش نفس تلك الأيام وصورها.. يقول الصديق: {سابقا كانت زوايا النساء ومعهن الأطفال في المناطق تُعد جزء لا يتجزأ من موكب العزاء بشكله المعروف. فالرجال يشكلون الموكب ويهيئون زوايا النساء والأطفال ويوفرون لها مستلزماتها من نظام ومظاهر حزن ومواساة حتى تقترب نفوس مجتمع المنطقة من الأداء الأحسن في مودة أهل البيت عليه السلام ومشاركتهم مصابهم الكبير}.
واقع الحال فَصَلَ الدور النسائي عن أداء دوره المكمل لمواكب عزاء الرجال في كل مناطق البحرين بحجج ليست وجيهة، بل هي حجج معبرة عن قصور في أداء الموجهين الدينيين على الصعيد الاجتماعي والثقافي الذين عزوا مسألة الفساد الأخلاقي إلى الأداء النسائي بين الزوايا في محرم الحرام، فتسببوا بهذا القيد في وقوع ضرر كبير على ما قدمه لنا الأجداد من بناء على صعيد الشعائر الحسينية كان شيعة العالم الإسلامي يغبطون أهل البحرين عليها .. وكلما فشل هؤلاء الموجهين الدينيين في موقع اجتماعي أو ثقافي أو حتى سياسي جديد؛ بادروا إلى تقييد الشعائر في صور من صورها، ثم عزموا على وضع البديل الخاوي من أي روح تتمثل فيها الشعيرة الحسينية.
يتساءل البعض عن حجم ذلك الضرر الذي أوقعه الفصل بين زوايا النساء ومواكب العزاء على الشعائر في البحرين، وفيما أدت عملية الفصل هذه في التقليل من حجم الفساد الأخلاقي المدعى في زوايا النساء؟!.
معظم من قرئت تقديره ممن ينتمي إلى جيلنا وعاش أيام عاشوراء في مرحلة ما قبل السبعينات، يؤكد على أنه وجب الفصل بين أمرين: بين أمر أداء النساء في الزوايا المكمل لموكب العزاء بالطريقة المفجعة التي عهدناها محببة للجميع وكان علماء الدين في تلك المرحلة يحثون على تأييدها ودعمها ولم تكن تتخللها شبهة من هنا وهناك، وبين أمر الحال الأخلاقية المختصة بالعلاقة بين الجنسين.
فالأمر الأول يجب أن يعزز بين الناس حتى تحظى المشاركة بهيئتها الشعائرية الممدوحة ، وفي الأمر الآخر ليس هناك من رابط بين أداء زوايا النساء في محرم الحرام والحال الأخلاقية من الناحية الموضوعية والمنهجية. فالحال الأخلاقية هي انعكاس للانفتاح الحضاري ومستوى التقنيات الذي تطلبت جهدا ثقافيا دينيا متفوقا في الجانبين العملي والنظري .
ولأن أداء علماء الدين ومؤسساتهم الثقافية لم يكن بمستوى التحدي بالرغم من توافر المعطيات المناسبة كالوجاهة وإكرام الناس لهم وسخائهم وعددهم الكبير الذي يفوق النسبة المقابلة من الناس في المناطق؛ فقد شهدت العلاقات الاجتماعية بأشكالها المختلفة انتكاسة وتدهورا.
وإذا ما كنا نرغب جديا في إيجاد حل للجانب الأخلاقي بشكل عام فعلينا أن نعيد النظر في أداء علماء الدين من حيث منهج العمل المناسب والإحصاء والتوزيع العلمي بين المناطق وطبيعة المؤسسات الملائمة مع فصل الجانب السياسي الحزبي الدعائي عن هذا الأداء، وليس الحل يكمن في طريقة قضم ما تبقى لنا من شعائر بدأت تتحول اليوم إلى ساحات استعراضية للبيتزا والسمبوسة والكبدة والكيك والشاي ومختلف ألوان العصيرات فضلا عن ساحات استعراضية للمقامات السياسية. |