كريم المحروس
21/9/2010م
لأول مرة ، ومنذ ثلاثين عاما ، وقفت بنفسي على حوادث بلدي البحرين وبشكل مباشر وبلا واسطة روائية . فشاهدت بعيني بعض حملات الاقتحام التعسفي للبيوت والاعتقال غير القانوني للفاعلين سياسيا . ورأيت عند طلوع صباح كل يوم شعارات معارضة جديدة على الجدران مكملة لما سبقها في العداء الشديد المستحكم للعائلة الحاكمة وحكومتها التي باتت تُتهم بالانقلاب على الأعقاب والاستبداد وخذلان حق الدولة والشعب في التمتع بالأمن والتنمية المستقرة المستدامة لصالح حق السيادة المطلقة للعائلة الحاكمة بلا قانون منصف وعقد اجتماعي عادل.
كنت قريبا وقاب قوسين أو أدني من عمليات حرق الإطارات في الشوارع وردود الفعل العنيفة المضادة المتخذة من قبل قوات الأمن (الشغب) وعناصر المخابرات، حتى تناهى إلى سمعي قول الملثمين في ردهم على المتسائلين: إن هذه العمليات لا تستهدف سد معابر القرى وإغلاق الشوارع مطلقا، إنما كانت عبارة عن خطوات استباقية لمنع قوات الأمن (الشغب) من اقتحام القرى بلا مبرر قانوني، ولحماية قاطنيها من أذى هذه القوات، وإبطال مفعول قذائف مسيلات الدموع قبل انتشار أدخنتها في الأزقة الضيقة ، ولحماية حق المواطن في التظاهر السلمي.
واما ما سمعته وقرأته محليا من قبلُ ومن بعدُ في متعلقات هذه الحوادث فحدِّث فيه الكثير مما يعين على التحليل ورصد الدوافع والخلفيات الأمنية والطائفية الرسمية المناهضة للفعل السياسي لجيل الشباب الواعد على وجه أخص ، وما نقموا من هذا الجيل بدوافعهم تلك إلا أنه جيل عاش محنة الإحباط وتطاول السلطة على الحق العام بصور عنيفة صريحة جدا، فما كان من هذا الجيل في أيامنا هذه إلا التعبير عن احتجاجه الشامل في القرى بوسائل معمول بها في الدول المتحضرة.
في هذه المرة تعمدت قراءة نفسي فيما قرأت قبل إمعان النظر في كل ما يجري من حولي . فلم أعد أشعر عند تلك القراءة بحماسة موقف معارض صارم يغلي في ذاتي مثلما جبلت عليه من حماسة ثورية في حوادث السبعينات والثمانينات والتسعينات. فأرجعت علة ذلك مرة: إلى السن التي تجاوزت بي حد الخمسينات فمالت بي إلى حيث التروي والحيطة والحذر قبل التفاعل مع المحيط النضالي أيا كان شأنه. وفي المرة الثانية: أرجعت العلة إلى طبيعة المسيرة السياسية المعارضة الحالية وأهدافها التي (في ظني) لم تتجاوز بعد حد الخطوة الأولى على طريق مراجعة أخطاء انتفاضة التسعينات وتدارك مضاعفات فشلها على الصعيد الحركي والسياسي. واما في المرة الأخيرة: فأكاد أخفيها لولا أنها كانت حاسمة حيث ألفيت ذاتي منشدة إلى السخرية أكثر مما تطلبته وقائع توتر أمنى خطير عالي المستوى تجوب في ساحته قوى أمن ومخابرات مجهزة بكل أدوات التصدي لحرب أهلية! .
في المرة الأخيرة هذه ، سعدت بتوصلي للقراءة الصائبة التي رجوتها من متابعة موقفي المستقل من حوادث جزيرتنا ، وكم كانت سعادتي غامرة حين اكتشفت أن تحولات كبرى جرت بين ما سمي بـ (الأغلبية الصامتة) خلال أحداث الشهرين الماضيين واستسلمتُ لضغوط حشد هذه الأغلبية وكأني شاركتها العبرة الحضارية من حوار قصير جرى مع صديقي الباحث في الشؤون الأوروبية أعقاب حادث مروري كادت على أثره الأرواح تصعّد إلى السماء.
في الشارع الواصل بين مدينتين أوروبيتين ، قطعنا (الباحث الأوروبي وأنا) أميالا عديدة بسيارتي (الكرمبعة) ، وإذا بسيارة على آخر طراز تخطت السرعة المقررة بحسب تعليمات المرور فعمِدتْ إلى تجاوز سيارتي عن قرب شديد حتى كادت تصطدم بنا .. صببت جام غضبي على هذا السائق المتهور المتجاوز حتى كدت ألعنه بما لعنت به مِنْ قبل منافقي عهد النبي (صلى الله عليه وآله) الثلاثة المنقلبين.. لكني تريثت بعد أن بصرت صاحبي الباحث رابط الجأش ،ممتدا في سخرية صريحة طولا وعرضا، ولم يفتأ يردد هذه الكلمات: هذا طيش وجنون فقط.. ثم بعد لحظات صمت واجهني وقال: لا تكترث يا صاحبي لما حدث ، إنْ هو إلا طيش وجنون ، وما عليك عند مثل هذه المواقف المجنونة إلا السخرية من عقول رجالها وما يفعلون، ولا تشطط في القول ولا تلعن إلا لفعل عاقل جاحد لنداء عقله وقلبه . فهذه عاداتنا وتقاليدنا الحضارية : لا نشطط ولا نغضب لفعل الطيش والجنون وإلا كدنا نكون من الطائشين المجانين!
نعم .. بعد أن تلقفت هذه العبرة سخرتُ لكل ما رأيت وسمعت من تطورات أمنية وإعلانية رسمية طائشة مجنونة لا ثمرة فيها إلا علقم صيف سام . ثم اكتشفت أنني واقع في عرض (أغلبية ساخرة) كانت توصف إلى ما قبل حوادث الشهرين الماضيين بــ (الصامتة) بحسب تعبير بعض الصحفيين البحرانيين المغلوب على أقلامهم والممتحنين في أرزاقهم ، لكن (الأغلبية) هذه خرجت على صمتها بعد كل ما حدث من إجراءات أمنية تعسفية مستتبعة لحشد إعلاني طائفي انفصالي رخيص .. بل باتت تلك (الأغلبية الساخرة) تستشعر اليوم خطر الطيش والجنون السياسي والأمني في جزيرتها حتى أصبحت على يقين من أن المعالجة الصحيحة في مثل هذه الحال لا تتم إلا بالسخرية عطفا على معاني قول الآية الكريمة {.. لَا يَسخَر قَومٌ مِّن قَومٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيرًا مِّنهم..}.
لله در (الأغلبية الساخرة) ، فهي خير من سلطة جمعت في دوائرها عقولا سياسية وأمنية استشارية كلها (على نفقة الدولة) في مأكلها ومشربها ومسكنها! ، ثم كانت عاقبة استشارة هذه العقول الخسران المبين .. ففي الشهرين الماضيين خسرت العائلة الحاكمة وحكومتها كل ما بنته في سنوات عشر مضت إلى غير رجعة .. وفي الشهرين الماضيين كسب المعارضون أدوات اللعبة السياسية كلها بعد ما جمدت هذه الأدوات في بيئتهم خلال جدل السنوات العشر لمشروع "الإصلاح" الملكي .. واما فعل (الأغلبية الساخرة) وانعكاسه على ساحة الصراع السياسي فخطير جدا ولا يمكن للمعارضة ولا لأحد في العائلة الحاكمة وحكومتهم أن يستهين به في أي خطوة تصالحيه قادمة ان قدر لها ذلك ، لكونه فعلا مندكا في الحق الخالص المؤكد على جعل تلك (الأغلبية الساخرة) مصدر السلطات جميعا .
والآن حسبنا القول: أن جزيرتنا دخلت مرحلة سياسية خطيرة لن تنفع معها وسائط دعاة الحوار غير المتكافئ إلا إذا افترضنا جدلا أن في الوسط الشعبي المعارض قادة سياسيين ضلوا طريق عقولهم فـ(طاشوا وجنوا).. ربما يختلف معي البعض في هذا الافتراض الجدلي لأنه يؤكد على حقيقة وجود القادة الشعبيين المتضخمين من ذوات العقول الباردة ، ودليلهم في ذلك: أن هؤلاء القادة سارعوا بعد حملة الاعتقال الواسعة وانتشار قوات الأمن والمخابرات في كل أرجاء الجزيرة إلى وضع أنفسهم وسائط خير مع الحكومة ، في خطوة استباقية منهم لكسب دور سياسي مجزي مساهم في ضبط تيارهم المنفلت لصالح الجهات الثلاث: حق، الأحرار، وفاء.! |