للماحوزي «البخصم» وللمتحالفين عفطة عنز
كريم المحروس
23/6/2010م
تحداني «جابري» في السنوات الأولى للمنفى على مائدة إفطار ، فانتهى الأمر بيننا في صباح ذلك اليوم السعيد إلى فوزه حتى رفعت له من جانبي راية بيضاء..«جابري» إسم رمزي حركي للمرحوم الحاج علي خميس الماحوزي ذي الـ 67 عاما قضى منها عشرين عاما في المنفى، دعاني على وجبة إفطار وكنت أظن أنها ستكون دسمة جامعة لبعض من رزق خصته العناية الإلهية ببلد المنفى، وإذا بي لا أرى أمامي إلا «بخصم» في زاوية سفرة صغيرة الحجم، و«غوري» شاي مغطى بالخبز في زاوية أخرى ، والحاج «جابري» متربع على طرف السفرة ينتظر مني المبادرة لتناول ما يليني .. قلت ربما لضيق ذات اليد خرج «جابري» على المألوف من مادة إفطار جَبُل المنفيون على تناولها في هذا البلد حيث الخبز بطول«متر» والجبن الأبيض«لا مفر منه» والمربى واللحوم الباردة والموالح بأنواعها متاحة لذوي الدخل المحدود.
ضحك «جابري» وكأنه عرف ما أنا عليه من مفاجئة «باطنية» على غير باطنية أهل «وحدة الوجود والموجود» السذج ، وقال: لا تفاجئ ، تره هذا فطوري التقليدي منذ أول يوم هاجرت فيه من البحرين وخلفت ورائي زوجتي وأولادي بلا كافل يرعاهم، ولو عجزتَ وأنت بحراني تتخير بين أنواع الأطعمة في وجبة الإفطار ؛ سيصيبك الكدر ، وسترجع في النهاية إلى ما ألفنا عليه آباءنا: التغميس بخبز أو «بخصم»!
بعد عشر سنوات تقريبا من حادثة الصباح هذه ، وفي بلد منفى آخر ؛ شاءت الأقدار أن أكون ضيفا على «جابري» في وجبة إفطار أخرى.. هذه المرة تكررت نفس الصورة الأولى على سفرة الصباح: «بخصم» ، و«غوري» شاي مغطى بالخبز، و«جابري» متربع مبتسم ينتظر مني المبادرة إلى تناول ما كتب من رزق .. فقلت« لجابري»: لا ..لا .. هذه المرة جئتك خاضعا منكسرا ، فلا مفاجئة لي كالأولى يا «جابري».. ولكن قبلت التحدي فلم أعد أفطر إلا بإفطارك التقليدي منذ يوم غادرتك في المنفى الأول، لأن تقليد التغميس بـ«البخصم» والخبز شهدناه عادة وكنا صغارا فلا مفر لنا إلا إليه.
حضرت فاتحة أقيمت على روحه الزكية في أحد مآتم الماحوز وصورته لم تغادر مخيلتي، ورأيت في عيون كل أقربائه ورفاقه مِنْ قَبْل ذات البريق الذي كان في عيني«جابري» رحمه الله تعالى واسكنه فسيح جناته.. بريق يحكي قصصه في التمسك بمواقف الصبر والتضحية على كِبَر سن من أجل المبادئ الواضحة والصريحة، المجردة من مرحلية وسِعَةِ نفاق رأى فيها البعض غاية مؤقتة لتثبيت قدم سياسية كانت زلت، بينما الوقائع اليومية تؤكد على أنها مرحلية بخسران مبين في جميع المقاييس.
شهد «جابرى» في العقد الأخير من حياته ما اعتبره إهانة صريحة لسنوات نضاله العشرين وآلام المنفى والبعد عن الأهل والأولاد..كان البعض منا أهل انتفاضة في التسعينات حيث تزعموها بمقاصد لم تكن مألوفة مِنْ قَبْل وشذوذ في نضال الأغلبية الشعبية التي جبلت على تقليد الانتظار والصبر ما لم تتقدم ساحة النضال راية مرضية وتشكل امتدادا للصيرورة النضالية الطائفية التاريخية على ظهر جزيرتنا.. تقدمتْ نضال التسعينات مطالب بإعادة الحياة الديمقراطية ، خضوعا عند قول المنادين بسياسة « تضافر المكنة والممكن»، ونبذا لقول المطالبين بالصبر لحين التمكن من حشد الطاقات على أسس مبدئية جامعة مانعة .. ثم وعدنا خيرا .. بعدها أُكِلَ دستور 1973م (أعجوبة دهر المعجبين به) وبلع البرلمان (أبو 90% من المقاعد لصالح الطائفة!) على وجبة إفطار غير تقليدية غاب عنها «البخصم» والخبز ، وحل محلهما خرفان مشوية اجتمع حولها أقطاب «البلع» المكشوف لثروات الدولة ومقوماتها.. ثم انتهي بنا الأمر الجلل إلى: تحالف صريح لزعماء «المكنة والممكن» مع أقطاب «البلع» تحالفا استراتيجيا، فحلبوا لهم حلبا كان لهم شطره بلا منازع (وزارة وجريدة و17 عضو جامد في البرلمان)، ثم أوهموا الناس من حولهم وادعوا بأن لا تحالف مصالح هناك مع السلطات مطلقا ؛ إن هي إلا مرحلية معارضة لبسط القانون أمام مهمة تأسيس بناء شعبي مؤهل لصناعة التوازن مع السلطة وفق نظام هرمي مُقَعِد لكفاءة قيادية مغايرة للزعامة «الناقصة» التي قادت نضال التسعينات.
لا ريب في أن معاني بدعة المشاركة في عقدنا الحالي تجاوزت بنا بدعة المشاركة في عقد السبعينات من حيث الواقع لتصنع اليوم تحالفا حقيقيا بين التيار الغلاب بقيادته وكوادره وبين قوى رسمية لا يشك أحد مطلقا في خبث باطنها. من هنا فلا عجب أن تدار عمليات رصد واحتواء وابتزاز وإرهاب أمنى واجتماعي تبد للناس حالات فردية تجري تحت مظلة جهتي التحالف.. إنه بكل المقاييس السياسية «تحالف» على وجه الحقيقة لا مشاركة نيابية فحسب، ولا يخفى على أحد من سيكون ضحية المتحالفين في ظل الدورة البرلمانية القادمة؛ إنهم كل من رفع لواء التبري من فكرة المشاركة ورموزها، وليس آخر طليعة عمليات الابتزاز والإرهاب الأمني هذه مشروع منع السفر لبعض مناضلينا ومحاصرتهم قضائيا من بعد ما استتب الأمر لمشروعي التجنيس والتوزيع الطائفي الإداري تحت مظلة الدورة البرلمانية السابقة التي عُمِّدت سياسيا بتحقيق أملاك الدولة.
رحمك الله تعالى يا «جابري» .. لو تجردنا من بدعة المشاركين في المجلس التأسيسي والوطني في السبعينات وتصورنا وقوعها عدما ، ثم رجعنا القهقرى إلى حيث الرؤى السياسية والاجتماعية التقليدية التي كانت حاكمة على الوسط الشعبي البسيط في تلك المرحلة برغم اجتماع هذا الوسط على القول بضرورة الصبر والانتظار والتريث للنأي بالطائفة ومقدراتها عن الخوض في مسيرة غير مضمونة العواقب وغير مأمونة الجانب ولا تمثل قيمة وطنية حقيقية تستحق التفريط بتضحيات قرنين ونصف تقريبا؛ لما اجتمعت قوانا النضالية على بدعة المشاركة في «تحالف» اليوم بهذه الجرأة الصريحة.
رحلت يا «جابري» ..لم يهينوا فيك النضال والتضحية يا «جابري» وآلام عائلتك الكريمة ، فإنها بعين الله تعالى؛ بل أهانوا أنفسهم وطائفتهم وما يفقهون. |