<التايرات> و <المولوتوف> أدوات نضالية خذلها الشركاء
كريم المحروس 10/3/2010م
"نجّاب عيش" في مأتم إحدى مناطق المنامة كان المرشح الأول بين معاونيه للحد من ظاهرة الهجوم غير اللائق والمفزع على صواني "العيش" المخصصة للتوزيع بين المشاركين في مواكب العزاء.. ويفيد مختصر الظاهرة: بعد انتهاء موكب العزاء يجتمع بعض المتطفلين عند بوابة مطبخ المأتم مترصدا خروج صواني وجبة التبرك على رأس الموزعين .. وما أن يجتاز حامل الصينية بوابة المطبخ قاصدا تسليمها لِحِلَق المنتظرين المعزين حتى"يهبش" المتطفل المترصد وسط الصينية بكفيه لينتزع بهما "الودام" بلا رحمة ولا شفقة، ثم لا يكون من نصيب المعزين إلا الرز بلا "حَمْصَة" أو بحسب التسمية المحلية:"عيش موملح".
دخل "نَجّاب العيش" في مراهنة حاسمة أمام سخط معاونيه بعد الفشل الذريع لعلاج هذه الظاهرة السيئة التي كانت شائعة إلى قبيل منتصف عقد السبعينات، وأمر معاونيه في يوم التفاؤل الموعود إلى الإسراع في طباخة الرز وتأخير طباخة"الودام" ثم تركه على أثافي النار يغلي حتى لحظة التوزيع، فكان له ما أراد .. وخلال مرحلة "نَجْب" الرز تصدى"النجّاب" المراهن بنفسه لضبط وإدارة توزيع اللحم و"توديم الصواني" ، فكانت حصيلة ذلك اليوم احتراق عدد كبير من أصابع"الهباشة" المتطفلين ، وأَكَلَ المعزون ما كتب لهم من رزق مبارك تام.
في اليوم التالي اتبع "نجّاب العيش" نفس الأسلوب الوقائي، ولكن المتطفلين احتموا بإجراء تعسفي آخر، إذ لم يكتفوا بالاستحواذ على محتوى وسط الصينية برؤوس أصابعهم، وانتزعوا الصواني من حامليها بجل ما تحويه، ورجعوا بها إلى أهليهم نَفَقَة !
سلطة جزيرتنا وبالقياس إلى وقائع طرفة "النجّاب" ومتطفلي وجبات المآتم كشفت عن مصادرتها لصينية ضخمة ضمت وجبة سياسية كادت تعم الجميع بنصيب مجزي ومرضي ومعادل من بعد نضال سياسي وتضحيات شعبية كان رجاؤها الأول فتح صفحة جديدة لتحقيق حياة حركة كريمة ونبذ قرنين من الاستبداد والاستحواذ المحكم على ثروات جزيرتنا.
الآن يصعب على المرء تقدير الأوضاع الحالية لصالح موقف إيجابي كاشف عن "لعبة سياسية" يمسك بطرفيها جهتان سياسيتان متوازنتان في القوى ويُمَثِّل أحد طرفيها تآلف أو تحالف من جهات المعارضة .. وكل ما كرسته سلطة جزيرتنا من نظم على شكل عقود اجتماعية ومؤسسات تابعة ما هي إلا وجبة شهية مر ظلها على المعزين ولم يتسن لهم رؤية شبحها أو شم رائحة منها ، حتى خُيّل للبعض من المعارضين حينها أنه نجح في تقمص دور "نجّاب العيش" ، ففرض نفسه مشاركا في وهم مِنْ الأُكُل، ثم انبرى يعتز بشرطٍ وضعه حاكما على نفسه وتفاخر به أمام نضرائه من المعارضين، يقول الشرط: "إنْ عُدتم عُدنا" . ثم "عادت" سلطة جزيرتنا إلى سيرتها الأولى على منهج حيلة وبددت كل تلك الظلال والأوهام ، ولم "يعد" هذا البعض المعارض إلى حضيرته وإنما جر خلفه منتمى الحضيرة وأثقل أطرافها بمؤسسة ورزق متضخمين حتى صَعُب عليه الآن الانسلاخ من تلك الحضيرة والتضحية بها، فكانت آخرته في طليعة الملتمسين لعذر المشاركة على أسس عصبية سياسية ، وفي مقدمة المؤولين لشرط ( إنْ عدتم عدنا) على أسس عصبية مرجعية.
يخطئ القراءة من يعتقد أن جزيرتنا ماضية إلى عهد "سياسي" عادل يٌمكّن البلاد من حياة حرة كريمة .. فكل ما هو أمامنا في هذه الجزيرة – وبالمقاييس السياسية الملزمة لجهات السلطة ذاتها - لا يبدو إلا ظاهرة هادفة إثبات سيادة خاصة لا مواصفات وطنية فيها ، وتقوم على ذات الثوابت الأمنية والعسكرية والخطط الديمغرافية الطائفية والقبلية القديمة، ولا تمثل يومياتها إلا امتدادا لعهد ما مضى من عقود عجاف مشؤومة. وأما القائلون بالتفاؤل أو التراتبية والمرحلية في التغيير الديمقراطي الموجبة لتثبيت قدم إيجابية كَسْبِية مشاركة هنا وأخرى سلبية نضالية هناك؛ فصحوة العقول أولى لهم قبل أن يُنعتوا في محيطهم الاجتماعي بصفة "أبناء الصحوة" تيمنا بموقف أهل المنطقة الغربية في العراق.
جزيرتُنا لم تُقْبِل حتى الآن على جدل ديمقراطي مؤسسي لصالح عامة الناس بوصفهم المصدر الحقيقي للسلطات ولو بالتراتبية المزعومة التي نصت على جعل هذا المصدر في درجة مهملة لا اعتبار سياسي ولا أخلاقي لها . وكل ما تحقق حتى الآن لا يعدو كونه بروتكولات ملكية مُعَزِزَة لسلطة الفرد الواحد الذي فاق بصلاحياته حد "التوازن" القانوني والمؤسسي اللائق لجزيرة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 692 كيلومتر مربع وعدد سكان لا يتجاوز 538 ألف مواطن .. جزيرة بهذا الحجم وبهذا العدد من السكان لو فوض ملكها لرئيس شركة سنغافورية لجعلها جنة أفلاطون خارج مثله!
لا تخفى على أحد خافية فيما مَثُل أخيرا أمام الجميع من اتجاه سياسي وإعلامي ومؤسسي رسمي منظم متظاهر بعناد في مساعيه غير المحمودة إلى منع تداول فكرة "التوازن" التنظيمي بين سلطتي الشعب والسلطات الأخرى في المملكة ، ومنع اجتياز هذه الفكرة محلَها كمفاهيم مثالية حضارية قابلة للتطبيق فضلا عن منع أي مظهر سياسي أو اجتماعي أو ثقافي موصل إلى ذلك "التوازن" ولو على مستوى السلطة التشريعية التي ألفناها كسيحة لا تقوى على شيء.
كل التوقعات والتكهنات لا تنبئ أبدا عن وجود إرادة ملكية مؤمنة بوجوب تنازل السلطات عن جزء من قواها وقوامها لصالح سلطة تشريعية مستقلة متكاملة في الهيكل والنظم والتمثيل الشعبي العادل.. وفي ذلك دلالة صريحة على أن ما اصطُنِع في مجالات الإصلاح على مدى تسع سنوات مضت ليس إلا خطوات شكلية هادفة إلى تنفيس التضخم السياسي الكبير لـ"عدو" مازال عدوا يتربص بالملكية الدوائر – بحسب مفاهيم الملكية الراهنة - وليس هناك من مسمى عند سلطة جزيرتنا لـ"شريك" معتمد كممثل لجهة شعبية معارضة يعتد به بحسب مفاهيم النظام الديمقراطي.
وأما القائلون بأهمية الاستمرار في المشاركة البرلمانية لغرض كشف جدية السلطة الملكية من هزوها – كما أشاعوا ذلك في أيامهم الأولى- فهم اليوم يعملون على تحصيل وهْم أمام بديهية كانت حاصلة ولم تقبل الجدل السياسي منذ أمد بعيد.. والعجيب في ذلك أن هؤلاء القائلين بالمشاركة السياسية يفعلون المستحيل لمكافحة الأداة النضالية الوحيدة التي أوصلتهم إلى ما هم عليه الآن من مُكْنة ومكانة اجتماعية وسياسية في الأوساط المحلية والدولية .. أداتهم النضالية تمثلت في فتية "التايرات" و"الملوتوف" وتضحياتهم بالأمس ، وفي واقع الحال آلت هذه الأداة إلى غيرهم بعد أن خذلوها ونَعَتوها بوصف: المشاغبين، المراهقين، المتطرفين، الجاهلين ، المضللين، المخربين ، الخارجين على الإجماع والمعاندين.
في جزيرتنا تُصنع المفارقات العجيبة في السياسة والاجتماع والثقافة والاقتصاد في كل عام مرة أو مرتين ..ولكن حركة الشارع النضالية هي من يقرر مصير هذه الجزيرة في كل آن وإنْ اختلف الجميع وتجادل على وسائلها وخلفياتها الفكرية، كما لا يصُنع التفوق أمام هذه الحركة إلا بالالتزام بنظام سياسي عادل صادق الوعد يحفظ للتنمية الاجتماعية والاقتصادية استقرارها المنشود ، وإلا كان النضال قدرا لا تنفد أيامه. |