الصواعق المحرقة بين أهل الشقاق والانتخابات المفرطة
كريم المحروس 6/3/2010م
كنت وحيدا فريدا ممعن النظر إلى شاشة "التلفزيون" في أولى ساعات ذلك النهار ولا من أحد يشاركني "البسطة" غير "دلة" شاي والى جانبها "استكانة" مثيرة للشفقة لا تستبين حمرة الشاي فيها من حمرة لونها .. وعلى غير عادة الفن التلفزيوني الرفيع المجرد من فجأة تداخل الصور والأصوات؛ توقف البرنامج وحل محله إعلان انتخابي دعائي.. يفاجئني الإعلان بمرشح سياسي ينطق كلمات هادئة ذات معان بسيطة جدا ، يقول فيها مخاطبا المشاهد: "لن تعرفني ، سُنّي أنا أم شيعي، ولن تستطيع حتى التقدير في ذلك، لا وألف لا ، فأنا وطني فقط وفقط.. بلدنا وطن وليس طائفة ، لا انتماء طائفي عندي ولا في بيتي ولا من خلف ظهري ولا عن يميني ولا عن شمالي .. لن تلهمك سنيتك أو شيعتك بتقرير اختياري مرشحا ، لأنك لن تعرفني أبدا إلا مرشحا وطنيا لا هوية سنية تميزني ولا شيعية".
وبينما كنت أحتسي ما تبقى من الشاي في تلك "الاستكانة" المسكينة؛ تلاشت أمامي صورة هذا المرشح السياسي الأنيق الجذاب شيئا فشيئا لتختلط بعض أجزائها المتبقية - في فن "تلفزيوني" ملفت- بصورة أخرى أظهرت رقما لقائمة انتمائه الانتخابي كُتِبَ بلون باهت جدا في أسفل اسمه المكتوب بلون أخضر جذاب، كان: "حيدر عبد الحسين"!
لم أتمالك نفسي .. ضحكت في ساحتي ملء شدقي ، ثم شكرت المرشح الشيعي "حيدر" في كل أرجاء قلبي لأنه شرح صدري لصباح ذلك اليوم ، ومَنْ شُرح صدره في أول يومه امتلأ يومه بهجة وتفاؤلا.. وفي ذات يوم الانشراح هذا تصورت وقائع أيام الوحدة السنية الشيعية في انتفاضة الخمسينات ، حيث اجتمع السنة والشيعة على "شيلة" عزاء جامعة يقول مطلعها: "سني وشيعي سوا.. عباس حامل اللوا"! .. كانت "شيلة" من صنف قول المرشح السياسي غير معروف الانتماء الطائفي "حيدر" الذي تحداني من على شاشة"التلفزيون" في تحديد هويته الطائفية فتحديته في نفس اليوم بـترديد"شيلة" عباس حامل اللوا !
في ظني، أن هذه المواقف الظريفة تحمل في أحشائها تعصبا محمودا على أسس من القيم والمثل الدينية الصريحة لا السياسية المؤسسة على نفاق يبدو لنا حميد المظهر. فليس في هذه المواقف ما يبعث على الفكاهة والضحك ولا السخرية حتى، عند القائلين بوجوب توظيف كل أنشطة العمل الديني في خدمة الطائفة لا الحزب الواحد وعدم العدول عن ذلك ولو اجتمعت فينا كل ألوان الطوائف على وحدة سياسية نموذجية.
فما أروع وأجمل أن يبدو كل واحد منا أمام ابن الطائفة الأخرى بما هو عليه لا بما تفرضه المعطيات السياسية أو ضروراتها. وعلى سنة ذلك، كان مجتمعنا بالأمس – رغم تخلفه- ظهر متفوقا بهذا السلوك على مجتمعنا المتمدن في يومنا هذا. فلم نسمع عن الخمسينات من القرن الماضي احتجاجا سنيا على تلك الشعارات الجامعة وإن بدا ذكرها منصرفا إلى لون طائفي خاص ، لأن الشعارات هذه كانت في حقيقة الأمر محل إجماع في مصادر التشريع وتاريخه ثم أصبحت محل اختلاف حين لعبت السياسة في دوائرنا بمراصدها.
شيخ سياسي سني وإمام جماعة لقيته في إحدى الفرص، قال لي بصريح العبارة بعد حوار بيني وبينه: أنا أثق ثقة مطلقة في شعار الوحدة حين يطلقه متعصب إمامي شيعي متمسك بعقائده وضرورات تشيعه التي نخالفه فيها ويستفزنا بها أحيانا كثيرة ،ولا أثق في الوحدة مطلقا مع الشيعي المرن المنفتح المتنازل عن بعض عقائده وضرورات مذهبه لإرضاء السنة وكسب ودهم . لأن الأول عندي صادق الوعد ولا أشك في دعوته ، بينما الآخر كاذب فاسق .. لأن من يبيع ضرورات مذهبه من أجل صناعة التقارب مع غيره من المذاهب ؛ من السهل بمكان أن يتنازل عن وحدته معنا ومع من هم من مذهبه أيضا عند بلوغ الجميع محل التحديات ،فكيف بها إذا ما كانت سياسية"!
"فكيف بها إذا ما كانت سياسية" ..هذا عين ما يحصل الآن في دائرة الطائفة ذاتها فيما لو صرفنا النظر عن العلاقة مع الطائفة الأخرى. ويمكن القول بألفاظ أخرى : أن التعاطي مع المثل والقيم المقدسة بيننا فيه الكثير من الحساسية السياسية المسرفة غير العاقلة ، وتشتد درجة الحساسية هذه حين تقيّم مواقف السياسيين الدينين وتنقد على سبيل التقويم من قبل المراقبين والمهتمين.. عندها تدور الأمور لدا البعض من السياسيين بشكل مسرف ومتطرف انطلاقا من مفهوم خاطئ لمبادئ ومفاهيم ولاية الفقيه. ولو اتخذنا رأي القائلين بولاية الفقيه في جزيرتنا كنموذج سليم مثالي على المطلق ؛ لحق القول بأن ولاية الفقيه لا تعني سوى الانسداد العقلي والشرعي في مختلف جوانب الحياة إلا عند من حل عليهم الغضب من المشركين أو الكافرين أو المنافقين ، ثم لن تُنتِج هذه الولاية – إذا ما بسطت يدها- إلا شعبا من "النواعق الحبشية على الصروح السلفية" أو "الصواعق المحرقة على أهل الرفض والزندقة"!
يشتكي أحد الصحفيين الملتزمين قائلا: "أنا من الطائفة ويحق لي وعليّ كما يحق لغيري وعليه .. لم أذكر في مقالاتي كلمة "الوفاق" إلا على سبيل الوصف العام.. ولم اذكرها كإسم وأعني بها الجمعية إلا مرة واحدة على سبيل التحليل السياسي العام والشامل لكل جهات الحراك السياسي.. هل تعرف ما حل بي؟! ..في الخطوة الأولى جُمعت الأوصاف كلها إلى الاسم فأصبحتُ عندهم مستهدِفا بمقالاتي للوفاق كجمعية ، وصُنِّفَتْ مقالاتي كرأي ممثل عن جهة حزبية داعمة لا كرأي صحفي صادر عن حر مستقل، فلعبت في ذلك الوساطات ثم المزايدات معا لعبتها.. وفي الثانية طُوِقْتُ بالشائعة في قريتي من قبل علماء دين ، وهذا مما لم استوعبه بعد.. وفي الثالثة سلطوا عليّ "الحبربش" من مراهقي القرية وجهالهم فحاصروني في المساجد والحسينيات والمنتديات الشعبية والمدونات الخاصة وفي الصحيفة التي اعمل بها من خلال عدد هائل من مراسلات ومداخلات الفتنة.. لقد خرج كبار القوم من طائفتنا من دور تبليغ الثقافة الدينية في المساجد والحسينيات إلى طفرة سياسية، وتقدموا فيها خطوة لا يحسدون عليها ، فكان حالهم فينا هكذا، فكيف بهم يستلمون رئاسة الوزراء التي يطالبون ثم رئاسة الدولة .. الله المعين عندئذ".
أضاف الصحفي: " نُوقشت في قولي هذا من قبل صحفيين آخرين ، وكان أحسن ما نُصِحت به في هذا النقاش، القول التالي: هون عليك ما نزل بك .. ومن الخطأ أن تنطلق في قراءتك للأحوال كلها من منطلق عام . فغير المتدينين يقدسون حق النقد والتقويم لأن قيمهم ومثلهم إنسانية تخضع لأحكام التجارب الحضارية، فتقدموا علينا بها زمنيا بحكم الخبرات، بينما الإسلاميون في جزيرتنا يتداولون في كل لحظة من لحظات حياتهم قيما ومثلا مدونة يختلفون في معانيها ودلالاتها ، كما لا تنحصر هذا القيم والمثل عند فرد زعيم أو قائد أو عالم دين حتى ، وهذا سر قوتهم في جانب وعامل ضعف في جانب آخر خطير، ومما يؤسف له أن يبقى المرجح بين هذين الجانبين في جزيرتنا أثر سياسي صرف متقلب المزاج. ولكن لا تنسى هنا أن التعاطي مع هذه القيم والمثل نقدا وتقويما، نظرية وتطبيقا، يخضع لحساسية سياسية مفرطة بين جهات متعددة المشارب الفكرية ، ومن بينها: قائل بولاية فقيه مطلقة ويطلب سيادتها على كل الفقهاء والناس وإلا كان الفقهاء والناس متطاولين على الدين- وقائل بولاية شورى الفقهاء المطلقة ويطلب بعث حركة العقل والشرع معا بين الفقهاء والناس ومنع انسدادهما والاستبداد بهما.. على أن ولاية الفقيه لا انتخاب حقيقي فيها للفقيه بين الناس، بينما الأخرى فيها للناس حق انتخاب الأصلح بين الفقهاء.. ومادامت السياسة هي اللاعب الأول في تقرير مصير جزيرتنا ومجتمعها حتى الآن، ويشكل روادها قطارا منطلقا بأقصى سرعة ولا كابح يحد منها أو مقود يوجه القطار إلى طريق الأمان؛ فعلينا الانتظار والصبر حتى تنمو بيننا الخبرات إلى حين ولو بعد كارثة اجتماعية، ويتبلور التعصب الطائفي المحمود فينا ولو بعد فراق حاد، وينجلي عنا النفاق الذي يبدو لنا سلوكا حميدا ومنقذا ولو بعد شقاق عام.
ربما كانت نصائح الصحفيين لنظيرهم المبتلى قريبة من الحقيقة ، لكن الواقع يؤكد أن من يبيح لنفسه اللعب في دوائر السياسة تيمنا بطبائع الاستبداد؛ فإنها ستحمله حساسية مفرطة لن يسلم منها حتى أقرب المقربين وأشد الاتباع إخلاصا.. لذلك يتوقع أن تشهد ساحة طائفتنا مظاهر انشقاق وتباعد سياسي . وقد يصل هذا الانشقاق إلى الذروة خلال المرحلة الانتخابية القادمة إذا لم تتخذ إجراءات صارمة تعيد النظر في المسار السياسي والطائفي على حد سواء .. فما أروع أن نكون كما نحن وكما تشاء شريعتنا وإن كلفنا ذلك الخسران المبين في محافل أهل الفسق والظلم والنفاق والزندقة. |