المتعكزون سياسيا ينالون من هيبة مؤتمر عاشوراء
كريم المحروس 21/10/2009م
بين السياسة وشعائر عاشوراء بحر كبير من الجدل غير المنصف للنص الديني في مرحلتنا الراهنة . وكان الأسوأ في الفكر البحراني السائد: أن ضرورات السياسة فرضت ذاتها كدافع محفز للتجني على أصول العقيدة بمسميات وألفاظ يؤولها البعض أسوة بالتأويل في أحقية الخلافة على الإمامة حتى ينبسط له عذر إحالتها على وظيفة شعار"ديننا عين سياستنا" ، ليخفف بذلك من وطأة المعترضين، وليحقق على الغير مقاصد حزبية ومرجعية أحادية الاتجاه في أقصر مدة زمنية، وبأقل الخسائر في المقامات الشخصية عند تغير معطيات السياسة وظروفها في مراحل لاحقة.
ويمكنني بضرب من التسول على الألفاظ أو التكلف الجامح في استعمالاتها أن أمثل هذه الحال بين المتأولين في الشعائر وعلاقتها الجدلية بالسياسة في صورة اعتقد أنها من أجمل ما رسم جدي الحاج علي (رحمه الله تعالى) في اليوم الأول لعودتنا من المنفى إلي جزيرتنا البحرين، وفي أول علاقة ظريفة بين أبناء جيلين: جدي حجي علي (95 سنة) الذي غبنا عن ناظره عشرين عاما ،وابني محمد علي (9 سنوات) الذي ولد في المنفى وفضل أن يسمع بوطن والديه المنكوب خير من يراه:
- محمد علي طرباكه، تعال وصلنّي إلى دكان صاحبنه حجي عبد الله حيدر، أَبَسُطْ وياه على جلمتين لَلينْ يأذّنْ مُؤذن مسجد الحاج حيدر .
- منهو حجي عبد الله يا جدي، أنه ما أعرفه ؟! وإشلون أوصلك وأنا ما أعرف البحرين ولا النعيم .. للحين ما شفت شارع بيتكم، ولا أعرف وين الدكاكين، وأنت أعمى ما تشوف ؟
- لا تفتكر يا ولدي .. انته بس اكلصني ولا عليك .. العكاز بوصلني وياك الى دكان حجي عبد الله!
- عجل خل العكاز إوصلك ابروحك .. لأنه إذا رحت أنه وياك إلى دكان رفيقك حجي عبد الله؛ منهو إرجعني بعدين وأنا ما أدل الطريق وما عندي عكاز؟!.
عكاز السياسة هو الذي فرض على "البصيرين" من أصحاب المقامات في جزيرتنا تبني فكرة إصلاح الشعائر الحسينية والترويج لها في صور متهافتة يدعي البعض منهم أنها حداثية حضارية خارجة على التقليد الجامد ومبرئة للذمة . وأظن أن السياسة بفكرها الحزبي واعتلالها المرجعي الوافدة علينا من بعيد بغير حساب؛ لم يكن لضروراتها أن تفرض ذاتها على جزيرتنا لولا أن أصحاب المقامات عندنا استمرؤا فكرة الطعن في أصل "التوحيد" عند بعض المرجعيات فاستتبعوا ذلك، فاستهان عندهم الطعن في أصل "الإمامة" من خلال لي عنق شعائرها.
عكاز السياسة هو الذي فرض على أهل البحرين الغربة في المسير إلى شعائر دينهم ، فأضاع بعضهم الطريق في أجمل ما كانت الطائفة البحرانية متميزة به في الأصالة بين مناطق التشيع في عالمنا الإسلامي ، ولم يقدّر البعض الآخر أروع التفوق في أحياء الشعائر على الإطلاق منذ أن عرفت جزيرتنا نشاط أول حسينية ومسيرة أول موكب عزاء في أيام عاشوراء منذ قرون عدة .
غربة الطريق هذه جعلت الشهور الثلاثة الأخيرة من كل عام هجري موئلا لوفادة تساؤلات شتى مشروعة حول شعائر عاشوراء، تراها متزاحمة في أذهان الكثير من أهل جزيرتنا تزامنا مع الاستعداد الدؤوب لإحياء ذكرى واقعة كربلاء .
تساؤلات يسعى البعض مرة للاستعانة بها على معالجة مصير الشعائر بعد تلاطم الحليّة والحرمة في الفتاوى بين ماضي منصوص لا شبهة فيه وحاضر مجتهد مؤول يميل إلى احتكار تمثيل التشيع في رموز شخصية لها من وظائف "الإمامة" ما يؤهلها مطلقا للعمل على تنقية التشيع مما يُظن أنها شبهات لا تستقيم مع رفعته من بعد ما جاء العلم بغيا بين الطوائف. ومرة أخرى يقصد هؤلاء المتسائلين إلى مناولة فوضى تقرير العلاقة بين الشعائر الحسينية ورموز الشأن السياسي البحراني الراهن الذي بات جليا في التخاذل وأكثر جدلا في المنهج والمقاصد من أي وقت مضى.
تساؤلات كان من أبرزها إجمالا:
إلى أي مدى كان أجدادنا يمارسون شعائر عاشوراء على صراط غير مستقيم، فكنا نحن المهتدين إلى الطريق القويم بفضل علمائنا الجدد "المصلحين" ووجب علينا استدراك ما أفسده الأجداد حتى نجزي الشعائر الجزاء الأوفى؟.. وهل تهرب أجدادنا من مواجهة واقعهم السياسي والاجتماعي المزري فكان أخذهم ببعض الشعائر "الشبهة" ليس إلا أخذا تعويضيا ؟..وهل ممارسات أجدادنا في الشعائر كانت قاصرة وبحاجة اليوم لوصاية تقوّمها، أم هي زائدة بإسراف وبحاجة إلى تشذيب وتهذيب وتثقيف؟.. ما هو السائد في تلك الشعائر ،أهي مظاهر بدعة أو اختلاق أم هو جمود أو نكوص في النظر؟
هل شعائرنا الراهنة تتمثل رؤانا السياسية ، وأيهما تقدم على الآخر حتى الآن ، الشعائر أم الرؤى ، فحدد المتقدم منهما الملامح المثالية والصور الشرعية للمتأخر؟..هل لسياساتنا الراهنة ورموزها الدينية من حق شرعي في رسم محددات هذه الشعائر والخوض في مناهج إصلاحها أم ان هذا شأن اجتهادي يختص به بعض الحداثيين من علماء الدين وعلى المتخلفين من العلماء وجوب اتباعهم وسلوك طريقتهم ؟..هل وظيفة إصلاح الشعائر في مرحلتنا الراهنة خاضعة لمتطلبات فرضها واقع ديني ووطني داخلي أم هي المصالح الإستراتيجية الحزبية الخارجية التي لم تتفهم بعد طبائعنا الثقافية وضرورات وضعنا السياسي؟.
كيف نجحت أحاديث إصلاح الشعائر المثارة بالشكل الحزبي والمرجعي الدارج في اجتياح ثقافتنا البحرانية ولم يكن لها من وجود من قبل، ولماذا؟ .. ما هو الدور الذي اضطلعت به النشاطات الثقافية في هذا الشأن وكان آخرها مؤتمر عاشوراء الذي تشارك فيه فعاليات دينية مختلفة الاتجاهات السياسية ؟
إن انشغال أذهان البحرانيين بمثل هذه التساؤلات لهو دليل واضح على انهم احسنوا وأجادوا سبل تحطيم الحواجز النفسية التي اصطنعتها نزاعات المرجعية منذ نزعة مطلع السبعينات، كما أنهم موفقون لمعرفة وتحديد وتبني معايير الشخصية الأصيلة المستقلة الجامعة بين مختلف ألوان الخبرات الدينية والسلوكيات الأخلاقية والوظائف العلمية والذوقية الحضارية، ومتجردون عن صفة البكم التي جعلت من المواطن البحراني على مدى قرن مضى لا يقدر على شئ وهو كَلٌ وثقل ووبال على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير، وهل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم.
عطفا على هذه الحال الحضارية ، شاءت ظروف التواصل بين أصدقاء الطفولة والشباب والنضال أن أسجل حضورا من غير دعوة في مؤتمر عاشوراء الثاني الذي أقيم في 10 نوفمبر 2008م، فلمحت ظاهرتين تمنيت غياب الأولى في مؤتمرات لاحقة كما تمنيت تحقق الأخرى بشكل حر، مستقل عن فروض مرجعيات خاصة حتى يكون للمؤتمر حق تمثيل الطائفة في البحرين بمختلف اتجاهاتها الفقهية.
الظاهرة الأولى: ان النظام المصنف للحضور بين حقل متقدم مخملي المجلس تحتله شخصيات خاصة، وحقل خلفي مخصص للحضور العام؛ أضفى على المؤتمر هيبة خاصة لم تتناسب مطلقا مع مضمون المشاركات والأوراق المقدمة للمؤتمر ، حيث لمس الحاضرون من فئة المثقفين في هذه المشاركات والأوراق بساطة وضحالة في الفكر والعلم ومناهج البحث والتحقيق والتدوين والعرض .
فكلها كلمات إنشائية عامة لم تكلف مقدميها أقصى ما بلغ المجهود .. واستعراض يتيم لتحقيق تاريخي في وقائع يوم العاشر من محرم بنى مقدمها تصديقاته على مصادر لرجال على مذهب آخر ، ثم أوضح أن مصادرنا الموثقة لا تتعدى الخمسة بينهما مصادر المذاهب الأخرى تتجاوز العشرة!.. وآمال شفوية العرض وغير مشروعة خضع المتقدمون بها لمؤثرات حزبية سياسية حديثة صنعتها مفاهيم الخلافة "الراشدة" وفي ظنهم أن الآمال هذه كانت ولادة شرعية لنصوص أهل البيت (عليهم السلام)..
ولم تثمر هيبة المؤتمر الأول شيئا في النتائج العلمية على منهج عام تاريخي أو مقارن وهما المنهجان المناسبان لمقاصد المؤتمر، ولا منهج خاص أو تكاملي ، حتى تبع المؤتمر التأسيسي الأول مؤتمران بلا نتاج علمي تحريري صادر على هيئة تحقيقات علمية بمصنفات مكتوبة يعتد بها في فكرة "الإصلاح"، والحال أن المسمى لهذا الجمع "مؤتمر" وليس"ندوة شعبية"، يختص في إحيائه طليعة العلماء وكبراؤهم المصنفين بحسب التقسيم الإداري لتصدر الحقل المتقدم ذي "الكنبايات" الفخمة!.
الظاهرة الأخرى: ان مقاصد المؤتمر لم تضع في الحسبان أن أهل البحرين تجاوزوا ثقافة السبعينات بما لها وما عليها، واصبحوا اليوم اكثر وعيا وإدراكا لمحيطهم وتركيبهم الاجتماعي التقليدي والمتغيرات الطارئة، سلبياتها وإيجابياتها، حسناتها ومساوئها ، فضلا عن المؤثرات الحضارية الوافدة على جزيرتنا .. ومثلما خضع كل شيء عند أهل البحرين لمساءلات الوعي والإدراك ، كذلك خضع إلى مبدأ التقويم الشعبي كل المتجادلين ، والمتقلبين، والذين اتبعوا الحق بإحسان في موضوعات عاشوراء.
كان الأحرى بالمؤتمر أن يكون حريصا على استقلاله، وممثلا عن الطائفة بألوانها المرجعية في جل موضوعات عاشوراء، لا أن يكون "إصلاحيا" متعكزا على منهج مرجعيات سياسية خاصة ترى فيها مرجعيات دينية أخرى خروجا على سيرة المتشرعة في الشعائر الدينية كافة. |