أحمد الماضي .. صورٌ ملوّنة بلذّة ما بعد السياج .. (1)
بقلم : klock kopior
حسين عيسى المحروس
لا يبدأ السحر حتى تلامس أنامله الكاميرا .. يرى من خلالها الأشياء صغيرة ..
يحتوي الناس بعين واحدة .. يتصرف في الناس كيف يشاء أمام الكاميرا .. إنه يشعر أنه
ينسخ من المرء شخوصا .. يخلق للشخوص صورا جديدة قد تكون أحلى من صورها الحقيقية ..
ولأن الكاميرا لا تكذب ، كانت عينه التي يرى إلى الخلق بها .. إنه يملك أن يحول
الشخصيات والفحول ـ في دقائق أمام عدسته ـ إلى شخصيات من ورق !
لقد كان مختلفا.. مصرا على وضع قدمه خطوة واحدة خارج السياج ..
خارجا على الكثير من الثوابت ، ثائرا على المقدّس البشري ،رافضا للطقوس التي
توقد هذا المقدس . ليس أمرا عاديا أن يرفض إنسان ذلك أبّان تلك الفترة - زمانا
وبيئة - حيث الاختلاف تصحبه نعوت عـــدّة ( فاسق ، كافر ، مرتدّ ، نصرانيّ ،… )
الذي يعني _ في أيسر نتائجه _ قطع الحبل السرّيّ بينه وبين الأمّ / الحيّ . كان يعي
عاقبة الاختلاف ، ويعلم نتائجها ، إلاّ أنّه أصرّ على أن يكون الماء الخارج من
التنّور .. وأن يغرّد خارج سرب من الطيور تطير في اتجاه واحد ، وأحيانا لا تطير !!!
وإلى جانب هذا الخروج الممتع لديه كان قادرا على الانسجام والتناغم مع ناس الحيّ
. كان يودّ لو أن يعرف الجميع أن الخروج على الثوابت لا يعني قطع الصلة بالناس ولا
يعني إيقاف تبادل المصلحة .. سنرى ذلك من خلال هذه المحاولة لكتابة سـيرته الذاتية
.
هل كان سلوك أحمد الماضي إشارة واضحة إلى الحيّ كلّه وإلى من حوله إلى ضرورة
الانسجام بين المعرفة والممارسة ، أو يبن السلوك المثالي والسلوك الواقعي ؟ إن جملة
من قناعات أهل الحيّ غير مقبولة لديه معرفة وممارسة . قناعات ليست محلّ ترحيب من
لدنه تبدأ من اللباس وتنتهي بما هو أكثر عمقا من اللباس . لذا ولأمور أخرى كثيرة
سوف نعرفها لم يكن الماضي شخصية منفعلة فقط بل فاعلة في الحيّ كله ومحل أنظار
الجميع . فهل حقق أحمد الماضي تكاملا شخصيا ولو وقتيا داخل جمـاعته ومحيطه ؟ ما أثر
تكوينه العملي المباشر وغير المباشر في شخصـيته ؟ كيف كان يختلف ؟ ما الذي أغراه
بالاختلاف ؟ ما أثر لغته الجديدة في شخصيته ؟ لماذا اختار التصوير الفوتوغرافي من
بين مهنه الثلاث ؟ كيف كان يمارس التصوير الفوتوغرافي ؟ متى توقف عن ممارسة التصوير
ولماذا ؟
في عام (1901م ) ـ حيث تجارة اللؤلؤ مازالت في ذروتها مصدرا أساسيا للعيش ـ
ترتفع أصوات على أصوات موج البحر ، وصوت النورس الحر ، من منزل الطوّاش الحاج عبد
الله يوسف الماضي مبشرة بولادة الصبيّ الأول من الزوجة الأولى للطوّاش الماضي ..
إنّه ذكر وبكر في آنٍ واحد !! . وللبكر نكهة مختلفة ، وذكرى غير عادية .. كيف سيكون
وجه الأب في الحيّ _ آنذاك _ عندما يكون المولود البكر ذكـرا ؟ هل يكفي الفخر ؟ هل
الوجه مبيض بهيج ؟ ولأنه البكر سيكون محل أنظار العائلة ورعايتها .
تربى الطفل " أحمد " في حضن أمه ( السيدة ) في سنواته الأولــى . لكن أمّه
تغادره قبل أن يكمل سنيّ عمره الأولى . تتوفى فتتركه في كنف ورعاية إحدى زوجات
الطوّاش الثلاث ( معصومة أحمد الشكر ) ، التي ترعاه ، فينمو على عينيـها .
تتوفـــى( معصومة ) فيتزوج أبوه الطوّاش أختها ( مدينة الشكر ) لتواصل العناية
بأحمد . إذن هناك ثلاث نساء في حياته الأولى أو ثلاث أمهات . ونحسب أن ذلك لا يمرّ
دون ترك أثر في حياته . فكيف كان هذا الأثـر على حياته ؟
عندما يبدأ الطفل في الكلام ، ويكتمل جهازه الصوتي فإن المدرسة الأولى هـي (
معلم القرآن الكريم ) أو ( معلمة القرآن الكريم ) فالقائمون على هذه المهنــــة
نساء / أمهات في الحيّ كلّه . وفي هذا ( المعلم ) أي مكان التعليم يجلس الأولاد إلى
جنب البنات في جو تعليمي مختلط منذ الصغر حتى ختم القرآن .وقد استفاد من ختمه
للقرآن بالقراءة في المجالس الرمضانية بأجر " كان أحمد عبد الله الماضي يقرأ القرآن
في بيت جاسم نصيف بأجر قدره خمسمائة فلس .. كان صوته منخفضاُ جدا . عندما يطلب منه
رفع الصوت يقول : إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير .. كان هادئا "
أدخل الوالد الطوّاش ولده " أحمد " في هذا ( المعلم ) لتكون هذه المرحلة مرحلة
التكوين العلمي المباشر الأوّل في حياة أحمد الماضي . وفي هذا المعلم يختم الطفل
قراءة القرآن الكريم ، ويحفظه . ولا تنتهي الدراسة في ( المعلم ) بختم القرآن
الكريم ، بل لابد من قراءة كتاب آخر ومعرفة الطريقة التقليدية لقراءة هذا الكتاب
الهام جدا .
هو كتاب ( المنتخب في المراثي والخطب ) المشهور بـ ( الفخري ) لفخر الدين بن
محمد بن طريح النجفي ) ت : 1085هـ ( . يتألف هذا الكتاب من جزأين ، موضوعهما وقعة
كربلاء . ويُقرأ في الحسينيات في شهري محرم وصفر قبل صعود الخطيب على المنبر .
ولقراءة هذا الكتاب طريقة تقليدية متعارف عليها في جميع الحسينيات في البحرين .
وتختلف قراءة نثره عن قراءة الأبيات الشعرية التي فيه . لكنهما طريقتان تشعران
السامع بالتفجع والحزن على مأساة الحسين بن علي بن أبي طالب .
وأرجّح أن أحمد الماضي قد قرأ هذا الكتاب لأنّه من متطلبات التخــرّج في هذا (
المعلم ) أولا ، ولأهميته الدينية ثانيا. وبذلك يكـون ( الفخري ) أوّل كتاب يقرأه
أحمد الماضي بعد القرآن الكريم . ولابدّ أنّه قد رسّخ اتجاهاته الدينية التي هي
اتجاهات عائلته وأهل الحيّ . كما أثّر في بناء لغته العربية التي يمكن أن نصفها في
هذا الكتاب بلغة لها معجمها الخاص ، هو معجم الحزن والتفجع والسواد . فمجالس هذا
الكتاب تبدأ بالدعوة إلى الحزن وإقامة العزاء في جمل غالبا ما تكون مسجوعة . وبعد
التقديم يبدأ سرد واقعة كربلاء : " اعلموا أيها الأخوان : إنّ نفثات الأحزان إذا
صدرت عن زفير نيران الأشجان فرّجت بعض الكروب عن الواله المكروب ، والدموع الهتان
إذا أسبلت عن مقرحات الأجفان ، فليس ذلك المد المصبوب ما يجده المتيم المتعوب ،
فليلبس كل واحد منكم شعار أحزانه ، وليتجلبب بجلباب كآبته وأشجانه " ( المجلس
الثاني من الجزء الأول ص : 31 ) وغالبا ما يعقب ذلك أبيات شعرية ، ثم يبدأ السرد
للروايات والأحاديث التي تؤرخ وقعة كربلاء .
هذا هو التكوين العلمي المباشر الأول لأحمد الماضي . تكوين ديني شيعـيّ خالص .
وعلى الرغم من هذا التكوين الذي يلغي الآخر دينيا كما هو حال المذاهب الأخرى سنجد ـ
لاحقا ـ الماضي يوجّه ذلك إنسانيا.
وقبل أن ندخل في التكوين العلمي المباشر الثاني لأحمد الماضي ، أودّ أن أشير هنا
إلى أن وجود المتعلمين في ( معلم القرآن ) لا يقتصر على قراءة القرآن وختمه ، بل
لابد لكلّ متعلم أن يمارس أعمالا أخرى فـــي ( المعلم ) إذ يتحول المتعلمون إلى
أدوات يقضي بها المعلم / المعلمة مصالح وتدبير شئون المنزل .
تُكلّف الفتيات ـ مثلا ـ بنفس ما يقمن به من أعمال في منازلهن من غسل ومسح
وتنظيف ، بينما تخص الذكور بالأعمال الشاقة أو الذهاب إلى السوق لشراء بعض الحاجيات
. فهل كان أحمد الماضي يقوم بهذه الأعمال ؟ أم كان يرفضها ويتمرد عليها كما يفعل
بعض الأولاد ؟ وهؤلاء غالبا لا يستمرون فـي ( المعلم ) أم أن وضع أبيه الاقتصادي
أعفاه من هذه الأشغال ؟ لا نعرف شيئا عن ذلك .
ومن القرآن إلى التوراة !! … شيخ وقسّ !! يختم أحمد الماضي القرآن الكريم ليعلن
انتهاء المرحلة الأولى من التكوين العلمي المباشر . وتبدأ المرحلة الثانية إذ يقوم
أبوه بإدخاله في البعثة التبشـــــيرية التي بدأت نشاطها في البــــحرين عام ( 1902
م ) وفي البعثة يكوّن أحمد الماضي صداقاته الأولى خارج الحيّ .. إنّهم أصدقاء
الدراسة . " من أصدقاء أحمد في البعثة أذكر أربعة هم : سيد محمود العلوي ، و
الأستاذ عبد الرسول التاجر ، و سعيد الزيرة ، وآخـرون غير بحرينيين "
وبين البعثة ومستشفى ماسون ( مستشفى الإرسالية الأمريكية حاليا ( كان أحمد يتنقل
حتى تمكن من دراسة اللغة الإنجليزية كتابة وقراءة وتحدثا .
يعلم أبوه أن البعثة كانت تحاول الاستعانة بولده الذكيّ في عمليات التنصير
والتبشير عن طريق الترجمة ، وأن محاولات عدة كانت لتنصيره . فأخرجه منها بعد أن نال
شهادة التخرج ليكون بذلك ثالث طالب يتخرج في هذه البعثة
" في الحقيقة أحمد الماضي اندمج كليا مع الإرسالية حتى أنّه صار يوزع إنجيل متّى
، وكان مجموعة من أعضاء البعثة ـ وهم أصدقاؤه ـ يأتون حيّ النعيم لأخذه في ليالي
الاحتفال بأعياد الكرسميس . ,أكثر من ذلك .. شكّل فريقا مع أصدقائه الذين يدرسون
معه في البعثة ، وهم : السيد محمود العلوي ، وسعيد الزيرة ، وآخرون لمواجهة فريق
رجال الدين الذين تزعموا التصدي لنشاطات البعثة التبشيرية وهم : السيد عدنان
الموسوي ، و الشيخ جاسم المهزع ، والشيخ محمد علي حميدان ، والشيخ سعود بن محمد بن
عبد الله بوبشيت .. إلى جنب ذلك كان يوزع الإنجيل ـ كما قلت لك ـ في دكانه .. دكان
التصوير الفوتوغرافي على بعض الجاليات الموجودة في البلد في ذلك الوقت وخصوصا
العمانيين والهنود ..هذه الأعمال جعلت الكثير من الناس في الحيّ يقفون ضده .. أضف
إلى ذلك موقفه المؤيد من الاستعمار البريطاني في البحرين ووصفه له بالإصلاح ..
وموقفه المناهض لهيئة الاتحاد الوطني التي يرأسها السيد على كمال الدين الغريفي حيث
شكك بفعالية رجال الدين وقدرتهم على فعل شيء جيد للناس وجلوسه الكثير مع ملا حسن بن
الشيخ كاتب المستشار البريطاني بلجريف حيث يقوم هذا الكاتب بنقل الأخبار إلى
المستشار "
إذا كان التكوين العملي المباشر لا يبدأ إلا بعد أن تكون جميع الاستعدادات
اللازمة له قد انتهت ، مثل الاستعداد لتعلم القراءة ، والقراءة نفسها والفهم
والاستيعاب ، والقدرة على التلقي الصحيح على الأقل . فإنّ التكوين العملي غير
المباشر يبدأ منذ سنوات الطفولة الأولى حيث يتشكل الطفل في بيئته الأولـــى ) البيت
/ الحيّ ( أحمد الماضي ـ كما أشرت ـ من مواليد حيّ النعيم بالمنامة . ولد في عائلة
مستقرة اقتصاديا واجتماعيا . المدرسة الأولى لهذا الطفل كانت البيت وهذه العائلة .
وما يحدث في البيت هو ما يستمر مع الطفل أكثر من دروس التكوين المباشر .
ومن الملحوظات التي بين أيدينا نعرف أنه ولد لأب قوي الشخصية ، يحبّ التعليم
والعلم وإن وجد هذا العلم عند أولئك الذين نعتوا بالكفر والبدعة . وأن هذا الأب لا
يهتم كثيرا بمعارضة هذا التعليم وإن كانت هذه المعارضة صادرة من فئة كانت مؤثرة في
المجتمع ، هي فئة رجال الدين . وعلى الرغم من ذلك كان هذا الأب محافظا متدينا ،
يتخذ موقفا من تلك البعثة بعد أن ينكشف له أهم هدف جاءت من أجلــــــــــه )
التنصير (فكيف سيكون التأثير غير المباشر لهذا الأب على ولده إذا عرفنا أنّ أمّه
تتركه طفلا فلا يظهر لها دور واضح فيه ؟
ولد أحمد في عائلة مسلمة شيعية المذهب . وما يتلقاه هذا الطفل هو ذات ما يتلقاه
أي طفل مسلم في عائلة مثل هذه في البحرين من السير على خطى الأسلاف من الشيعة في
تمجيد أهل بيت النبي محـــمد ( ص ) . ولا بدّ أن يتأثر بالسلوكيات التي تمارس
للبرهنة على الشخصية الشيعية . لا بدّ من الجلوس تحت منابر الحسينيات لسماع
السرديات الحسينية وما جرى في وقعة كربلاء . ولعل قراءته لكتـــاب ( الفخري ) في (
معلم القرآن ) سيظهر مساندا هنا ومؤكدا الوجدان الكربلائيّ دائما . وسيتم أعداد
الفرد تحت هذا المنبر جيدا لمعرفة أعداء أهل البيت .
كيف تلقى الطفل أحمد سرديات المنبر الحسيني ؟ هل كان كباقي الأطفال في ذلك الحيّ
متحمسا ، عاشقا لتلك الطقوس الكربلائية الحزائنية ؟ سوف أفترض أن ذلك حدث ـ فعلا ـ
له . لكن هذا التأثير على الرغم من حضوره فإنه سوف يتوجه ، ويتهذب ، ويستغل إنسانيا
بعد التقاء أحمد بثقافة البعثة التبشيرية . اللقاء الصدمة . صدمة الحضارة . لقاء
أحمد بهذه الحضارة أثر في شخصيته تأثيرا بدأ منذ شبابه حتى اللحظـات الأخيرة . صار
أحمد شابا مختلفا عن شباب الحيّ كلّه . يتسع قلبه ومداركه لكلّ ما هو ( آخر ) .
سيكون بين لغتين ، و ثقافتين، و دينين . ولنا أن نتصور كيف يكون سلوك شاب كهذا .
بين تكوينين غير مباشرين بيئته بكل تعاليمها وتقاليدها ومذهبها وأعلامها
وممارساتها الدينية ، والبعثة التبشيرية ومناهجها وأهدافها ودينها ، وسلوكياتها ،
وفكرها . بين هذين التكوينين راحت شخصية أحمد الماضي تتبلور وتنحى منحا جعلها
متفردة متميزة في الجهتين . أكان التسامح الديني الذي انتهجه أحمد ناتج من ذلك ؟
كما لا ننسى مؤثرا آخر لا يمكن إهماله ، وهو تعاقب ثلاث نساء في احتضانه وتربيته
( أمّه / زوجة أبيه معصومة / زوجة أبيـــه مدينة ) . قد يكون طفل كهذا غير مستقر
عاطفيا ، يكره فكرة الرحيل / الموت . لكن هذا التعدد والتغيّر قد يكون هو أحد أسباب
حبّ أحمد للتغيير ، والخروج على المألوف . ربّما !!
اعتاد أحمد على اللباس ( الإفرنجي ) الأوربي للرجال حتى سُمّـــــى بـ (
النصراني ) في حيّ ( النعيم ( بالمنامة . وعندما يخرج نصراني اللباس ، لا يلقى عليه
السلام و لا يُردّ عليه سلامه .. أمّا عندما يتحدّث بالإنجليزية فإنّهم ينعتونها
بلغة الكفر .. إنّه النصراني الوحيد الذي ختم القرآن في الحيّ ، ويتجه نحو قبلة
المسلمين .!!
يعمل في ( الطواشة ) مع أبيه ويتدحرج اللؤلؤ البحريني بين أصـابعه . وكانت هذه
المهنة تستدعي السفر شتاء إلى بلد السحر والعجــائب ( الهند ) . وهي فرصة سانحة
لأبيه كي يبعده عن البلاد فترة نشاط البعثة التبشيرية .
تكرر سفره إلى " كشمير " و " بومبي " للمتاجرة في اللؤلؤ حيث يتجمع تجار اللؤلؤ
هناك فيستقر في إحدى المرات في ( بومبي ) وفي الهند تعلم ثلاثة أشياء :
- صيانة الساعات اليدوية. ولعل هذا ما يبرر وجود مجمــوعة من ساعات ( GENIE )
السويسرية ، المصنوعة من الفضة الخالصة ، التي مازالت تعمل .
- السواقة .
- التصوير الفوتوغرافي .
" في الهند تعلم احمد الماضي صيانة الساعات اليدوية والسواقة والتصوير .. أذكر
أنّه صار يلبس اللباس الهنديّ في حيّ النعيم . وهو عبارة عن قميص أبيض رقيق وسروال
ملفوف بطريقة هندية غريبة . وكان يلبس معه برنيطة من خـوص ( كبّوس ) . كما كان يلبس
اللباس الأفرنجي ( البدلة ) مع حذاء أسود مع ربطة عنق أو وردة عنق سوداء . وهذه
الألبسة مع البرنيطة إلى جنب أمور أخرى أثارت حفيظة بعض الرجال في الحيّ فأعطوه
نعوت مختلفة منها : ملحد ، و( …… ) ، وعاصي ، و .. وأحيانا يلبس اللباس الشعبي
المحلي ( الثوب والغترة والعقال مع دفّة سوداء .. هي بشت أسود قماشه سميك يسمى (
دفّة ) .. أما لبس ساعة اليد بدلا من ساعة الجيب فلها نعتها الخاص عند المعارضين .
فالذي يلبسها ليس رجلا ، بل هـــو ( … ) "
ولعل سبب ذلك أن لبس الساعة في اليد تثير تخيلات لديهم . فهي تشبه سوار الذهب
الذي تلبسه النساء ، لذا ميّعوا لابسها ونعتـــــوه بـ ( الخـ .. ) . كما أنّها
عادة غربية شيطانية .. عادة الآخر المرفوض بكلّ عاداته وثقافاته .
" الذي أعرفه أنّ أحمد الماضي تعلم صيانة الساعات اليدوية في البحرين . يقوم
بفتح الساعة ثم يزيتها . كما له القدرة على عمل ميزانية التوقيت فلا تؤخر الساعة
ولا تقدم .. والسواقة تعلما في البحرين أيضا حيث عمل سائقا ومترجما لحسين يتيم ..
أضف إلى ذلك أنني أرجح أن ربطة العنق دخلت إلى حي النعيم بسببه هو . وخصوصا أن كل
سباب الحيّ يأتونه لربطها "
صورة التقطتها
عدسة أحمد الماضي
وفي سنة ( الزحمة ) حيث أصيب اللؤلؤ بمرض أفقده لونه وقيمته ، وجعل الناس في
زحام من العيش يتحول أحمد الماضي إلى عمل جديد " أحمد الماضي عمل مترجما لدى التاجر
( حسين يتيم ) الذي دخل في مقاولات مشاريع البحث عن النفط .. لكنّه ما لبث أن ترك
هذه المهنة ليبدأ مرحلة جديدة من حياته وآخر مهنة هي ( التصوير الفوتوغرافي ) الذي
قضى فيه معظـم حياته "
" كان الماضي يجيد اللغة الإنجليزية لذا عمل في ( الكومبني ) عن طريق حسين يتيم
لكن الشركة سرحته لهدوئه وسرحانه الكثير "
" بالنسبة للترجمة .. ما اقتصرت على ذلك بل كان يترجم كلام السيّاح الأجانب
لصنّاع السفن في النعيم .. القلافين أو القلاليف .. السيّاح كانوا يأتون لرؤية هذه
الورش والتصوير الفوتوغرافي لكن بعض القلافين يرفضون التصوير .. يغطون وجوههم أو
يصوبون أدوات القلافة الحادة مثل ( المجداح ) نحو وجوههم ويطلبون منهم المجيء في
اليوم التالي .. عندها يذهبون لأحمد الماضي للحضور في اليوم التالي للترجمة وأخذ
أجرة على التصوير من السيّاح !! .. أحينا يعلم القلافون من قِبل بعض الشخصيات
بزيارة سيّاح في اليوم التالي فيتفقون مع أحمد الماضي ليلا على الترجمة في اليوم
التالي فلا يردهم خائبين "
لم تكن هذه المرحلة الجديدة تبدأ دون عقبات ولم تخل من التنديد والمحاربة من قبل
بعض رجال الدين حتى قيل أنّ بعضهم كفرّه على المنبر . ويصادف دخوله في هذه المرحلة
مجيء أحد رجال الدين العراقيين ويدعى الشيخ عبد الحسين الحلّيّ إلى البحرين في مطلع
الخمسينيات حيث تشتدّ المواجهة ، ويشاع بين الناس أن التصوير الفوتوغرافي من
التجسيم لذات الأرواح المحرّمة ولا يختلف عن صناعة الأصنام ( الأوثان ) . لكن ذلك
لم يثنه عن عزمه ، فراح يصّور الناس في الأستوديو دون حرج . وإن قلّت ممارسته
للتصوير لعزوف الكثير من الناس عن التصوير بعد تلك الحملة ، فإنّ هذه الممارسة لم
تتوقف على الأقل .
" لم تكن هذه المعارضة أو المواجهة منحصرة في التصوير الفوتوغرافي ، بل نراها
تشتعل عندما يجهر أحمد الماضي بحمله للراديو في شوارع وأزقة الحيّ وأمام أنظار
الجميع .. أمام أنظار الرجال الأربعة الذين يشكلون قمة المواجهة معه في الحيّ ..
الراديو الذي يستمع إليه بعض الناس خفية وسرّا ومنهم الماضي أيضا .. لكن يبدو أنه
لم يتحمل ذلك ولم يقتنع بهذا الإخفاء فخرج للجميع يحمله أمامهم .. أو ربّما كان
يحاول استفزاز هؤلاء الرجال الأربعة والمؤيدين لهم لتنزل عليه اللعنات والنعوت
المختلفة .. و إلى جنب المعارضين له ثمّة مؤيدون له ولفكره واتجاهاته في حي النعيم
.. فأعضاء نادي النعيم الثقافي ـ مثلا ـ معظمهم مؤيدون لأحمد الماضي .. فعندما يقوم
شاب في الحيّ هو : حبيب القطري بتمثيل دور امرأة في مسرحية من مسرحيات النادي التي
تُعرض في إحدى الساحات غرب النادي مباشرة . ويطلق على هذا الشاب نعوتا مختلفة من
المعارضين فإننا نراه يؤيد أحمد الماضــي وبشدّة "
يبدأ أحمد الماضي عهدا جديدا بعد انكسار حدّة المواجهة الدينيّة للتصوير
الفوتوغرافي ، حيث يقوم بخطوة جريئة من نوعها وهي افتتاح أوّل معمل للتصوير
الفوتوغرافي في البحرين وأسماه ( عكّاس الماضي ) ... ، ساعده في ذلك بدء توثيق
الجنسيات في البحرين الذي كان يحتاج إلى صـور فوتوغرافية لحامل جواز السفر . ووجد
أولئك المناهضون أنفسهم مضطرين للجلوس أمام عدسة أحمد الماضي ليتصرف في هيئتهم
يمينا وشمالا . هل انتشى الماضي بذلك ؟ هل استفاد الماضي في تلك المواجهة من دراسته
في البعثة التبشيرية التي اعتاد أصحابها عـلى المواجهة ؟
وفي هذا الأستوديو ـ الذي يقع جنوب شرق سوق اللحم القديمة بالمنامة. جنوب فندق
صحارى حاليا ـ يستقبل الماضي زبائنه من البحرين ، والخليج ، وسواحل فارس ، بعد أن
كان التصوير مقــصورا على العراق . " كان التصوير في العراق حتى فتح الماضي أوّل
محل للتصوير .. لم أرَ قبله مصوّر "
وفي الأستوديو يعتمد الماضي على ضوء الشمس اعتمادا كاملا في عملية التصوير ، حيث
لا كهرباء ، ولا مصابيح ... كان عليه أن يفتح نافذة للضوء في سقف الدور العلوي على
شكل مربع لتدخل منها أشعة الشمس على الهدف الذي يجلس مباشرة أسفل هذه النافذة ،
ممّا جعل ساعات التصوير محدودة . أما غرفة التحميض فقد كانت في الدور السفلي . جعل
بها نافذة واحدة وغطاها بورق شفّاف أحمر حفاظا على السلبيات من الاحتراق الكيماوي .
تبدأ آخر مرحلة من التصوير بنقل محل ( عكّاس الماضي ) إلى موقع آخر في السوق
نفسها في العاصمة المنامة ( موقع فندق صحارى حاليا ) وهو أكبر من الأستوديو الأوّل
. لكنه يشبه الإستوديو الأول في تقسيمه إلى دورين : علوي للتصوير ، وسفلي للتحميض
وطباعة الصور . وفي هذا المحل يستخدم الماضي تقنيات وتكنولوجيا جديدة منها :
استخدام ثلاجة خاصة بالتصوير أحضرها من الهند تعمل بالكيروسين ، بعد أن كان يستخدم
الثلج يوميا لحفظ الأحماض ومواد التصوير . ومنها استخدام ميزان جديد مــن شــــركة
( KODAK ) لتحديد كمية مواد التظهير الكيميائية المستخدمة في تحميض الصور ، وذلك
بدلا من الميزان اليدوي التقليدي القديم ذي الجفنتين النحاسيتين وحبال وقطعة من
النحاس على شكل مسطرة تشدّ إليها الجفنتان معا .
أحمد الماضي مع
إحدى كاميراته
وفي مرحلة وصول الكهرباء في بداية الستينيات تدخل المصــــــابيح في ( عكّاس
الماضي ) ، كما يتمّ افتتاح استوديوهات أخرى مثل أستوديو ( عبد الله مبارك ) الذي
افتتح بعد أستوديو الماضي ( الثاني ) بخمس سنوات تقريبا وهو من مدينة المحرق وغيره
من الاستوديوهات .
وبعد توقف انقطاع الكهرباء أحضر الماضي ثلاجة أخرى تعمل على الكهرباء والكيروسين
معا من الهند أيضا ، وزاد عدد آلات التصـــــــوير ( الكاميرات ) وزادت إكسسوارات
الكاميرات أيضا ومن هذه الكاميرات :
كاميرا مصنوعة من الخشب ماعدا العدسة وبعض القطع القليلة جدا. وهذا النوع من
الكاميرات يجلب من الهند وإيران وباكستان والعراق ، وأرجح أنه جلبها من الهند لكثرة
سفره إليها . هذه الكاميرا تتكون من عدسة تسمح بمرور الضوء بمجرد رفع الغطاء عنها
ليسقط على السالبة .
كان الشخص يقف أمام هذه الكاميرا ، فإذا ما هيأه الماضي للتصوير طلب من النظر في
العدسة مباشرة . يرفع الماضي الغطاء الأسود ويعدّ من الواحد حتى العشرة تقريبا (
يعتمد على قوة الإضاءة ) فتثبت الصورة على السالبة . كما تحتوي على فتحة دائرية
الشكل مغطاة بورق أحمر يسمح بمرور الإضاءة إلى داخل الكاميرا لكي لا يفسد صلاحية
السالبة ، وفتحة أخرى يدير من خلالها المصور السالبة وباقي أجزاء الكاميرا . وعلى
الكاميرا من الخلف توجد قطعة من القماش الأسود يغطي بها المصور رأسه عند عملية
التصوير . وفي هذا النوع من الكاميرات يتم التصوير والتحميض في داخل صندوق الكاميرا
نفسها . صندوق جلديّ يوجد خلف الكاميرا ، أشبه بمعمل تحميض مصغّر .
كان أحمد الماضي يتنقل بها من مكان لآخر مع الحامل الخشبي الثلاثي الأرجل حيث
يعتمد على ضوء الشمس في التصوير . لكن اتخاذ الصورة لا يتم إلا في الظل . أما
الزاوية التي طالما توقف عندها في سوق المنامة ، كانت بالقرب من سوق الخضرة .
كاميرا ( IHAGEE ) ألمانية الصنع من شركة: (DRESPEN STEEBERGEN AND CO ) أحضرها
أحمد الماضي معه من الهند وهي أكبر بعد كاميرته السابقـة الذكر . وقد صنعت في القرن
التاسع عشر الميلادي . وسعـــة فيلمــهـــا ( 126)
كاميرا من نوع " AGFA " أكفا.
كاميرا (UETTAX) الألمانية وهي أكثر كاميراته تطورا إذ تحتوي على ضابط لحساسية
الفيلم (ASA) وفتحات مختلفة للغالق (F) وسرعات متعددة لهذا الغالق ، وهي صالحة
للاستخدام اليوم . وســعة فيلمــــها ( 126 ) أيضا .
كاميرا (ZENIT) زينت الروسية ، وكانت من أفضل كاميراته وضوحا.
وكاميرات أخرى بعضها اندثر ، والبعض الآخر تناقلته الورثة . بالإضافة إلى حامل
ثلاث من الخشب ( TRIPOD ) .
كان جميع مستلزمات التصوير من سلبيات وأحمض ومواد كيماوية التي يستخدمها الماضي
من نوع (AGFA ) تقريبا .
إحدى
كاميرات أحمد الماضي
في هذا الأستوديو يعدّ الماضي مجموعة من الأشياء الضرورية لتحسين صورة الشخص
المراد تصويره . يعدّ الماضي عقالا ، وغترة ، وقحفية ، ومجموعــــة من ( ربطات )
العنق ، ومجموعة من ( البدلات ) الكبيرة والصغيرة ، وكرسيا خشبيا وآخر من القطــن ،
و كرة قدم ، ومزهرية ورد . ويلتقط الماضي معظم صوره في وضعين . الأول يظهر الوجه
والكتفين معا ( أمامي ) ، والثاني يظهر معظم الوجه وكتفا واحــدا فقـط ( جانبي ) .
ويلاحظ من مجموع صوره أنّ أكثرها من نوع ( بوتريه ) .. معظم الصور تركز على الوجه
وإبراز ملامحه . ولعل هذا ما يجعل الماضي يهتمّ بالمصوَّر ( بفتح الواو ) وتعديل
هيئته ما قبل تصويره ووضع وجهه الذي يبدو مستعدا لأمر ما .. أما وضع صور البوتريه
الجانبية فهو خروج على نمطية التصوير الذي انتشر آنذاك .. غالبا ما نلحظ العيون
متفتحة في هذه الصور ، مما يجعل الوجه متفتحا أيضا .. ولأن العيون مركز الوجه كانت
العيون في الصور تنظر في عين الناظر فيها مباشرة ، وكأن الماضي يعرف أين يختبئ شكل
الوجه .
أما صوره الخارجية فقلما ـ من بين الصور التي بين أيدينا ـ أن تجد له صورة غير
ممتلئة بالموضع الذي صوّره . وعدم امتلاء الصورة بالموضوع من العيوب التي يتحاشها
المصورون الفوتغرافيون الآن . كما نلحظ قدرته على تنظيم الموضوع المارد تصويره .
فهو عندما يصور معلمة القرآن وتلاميذها في صورة واحدة نجد أنهم منظمون . الكبار في
الخلف في وسطهم تقف المعلمة . بينما يقف الصغار في الأمام بطريقة التفافية جميلة
وأمامهم نسخ من جزء ( عم ) من القرآن الكريم .
" إذا دخلت الأستوديو للتصوير فإن أحمد الماضي يعتني بــك. يُلبســك ( الكوت )
بنفسه لأنّ الناس لم تكن تعرف كيف يلبس بشكل صحيح . وهذا ما فعله بي عندما دخلت
محله الأول جنوب فندق صحارى .. في الدور الأرضي يعلق الصور على حبل حيث يستخدم مثبت
الثياب لتثبيت الصور على هذا الحبل . بعد ذلك يوجّه مروحة صغيرة ( مروحة طاولة )
على الصور المعلقة لتجفيفها "
ولم تنحصر ممارسته للتصوير في الاستوديو ، بل كان يحمل أكبر آلة تصوير لديه على
كتفه ، وهي مثبّتة في الحامل الثلاثي الخشبي إلى مواقع التصوير . ممّا أتاح له
تصوير تلك الوفود التي ترد على المستشار البريطاني آنذاك . ويلتقط صورة جماعية
لمعلمة القرآن في الحيّ مع تلاميذها . لذلك هو يحتفظ بصور قديمة جدا . صور تحكي
تاريخها . كما صور نساء الجاليات الهندية والإنجليزية وبعض النساء البحرانيات
اللواتي يرغبن في وضع صورهن في الجواز لكن وجوههن غير مكشوفة !!
" كان تصوير النساء متاح في العراق في تلك الفترة أما في البحرين فإن ذلك غير
مسموح به "
ومقابل هذا النشاط الفوتوغرافي الفردي كانت هناك مشكلة تواجه هذا النشاط وتكاد
تقلل من جودة إنتاجه فـ " لم تكن معكسة ( كاميرا ) أحمد الماضي تنتج صورا واضحة ،
حتى كدت أن أمنع من السفر إلى العراق لرداءة الصورة لولا تدخل مسئول الجوازات آنذاك
ويدعى (هاشم الشيوخ ) مما اضطـــر أحمد الماضي إلى شراء معكسة جديدة أخرى أمريكية
الصنع ، كانت صورها واضحة جدا . إلا أن الماضي تفاجأ أن هذه المعكسة التي اشتراها
من أحد الأشخاص مسروقة من الكومبني ( بابكو ) !! وعندما علمت الشركة بوجود المعكسة
عند أحمد الماضي لم تستردها ، ولكنها طلبت منه معرفة شخصـية البائع / السارق الذي
حاكمته وطردته من الكومبني "
لم تكن هذه الحادثة هي الوحيدة التي مرّت به . يروى عن الماضي نفسه أنّه قال : "
بعد أن انتهيت من تصوير أحد الرجال من قرية سند في الأستوديو ، سحبت لوح السلبية من
الكاميرا ، ودخلت به إلى قسم التحميض . بعد دقائق خرجت ، فلم أجد الرجل ولم أجـد
الكاميرا . لقد سرق الكاميرا ، وصورته تتحمّــض في حــوض التظهير !! " كان على ظهر
الصورة مكتوب بخط أحمد الماضـي ( هذا الرجل سـرق الكاميرا ) وذلك أملاً لدى الماضي
أن يعود هذا الرجل إلى الاستوديو يوما ما ، أو يلقاه في الطريق !! " كان أحمد
الماضي يسجل اسم الزبون في دفتر و يحتفظ بصورة واحدة لكلّ مَنْ يصوّر عنده ويكتب
خلف الصورة اسم صاحب الصورة واسم قريته .. لذا ترك لنا الكثير من الصور الشخصية
منها صورة كتب خلفها : هذا الرجل سارق الكــاميرا "
أما مستلزمات التصوير من مواد كيميائية ، وورق تصوير وأفلام وغيرها فقد كان
يحضرها من الهند شتاء ومعظمها من نوع (AGFA ) و ( KODAK ) .
في بداية التصوير كان يحدث شيء شبيه بالمساومة على سعر التصوير والصورة بين أحمد
الماضي وصاحب الصورة . لكن ذلك توقّف بمجرد أن فتح الماضي الأستوديو الثاني ، حيث
استقرّ السعر على ( 300 ) فلسا مقابل ثلاث صور وسلبية واحدة (NEGATIVE )
كانت المشكلة الكبيرة التي يواجهها الماضي يوميا هي لون بشرة الشخص في الصورة .
فكثيرا ما كان الناس يشكونه من ميل لون بشرتهم إلى اللون الأسود . وهذا كان ناتجا
من أشياء عدّة منها غياب الوامض (FLASH) وبساطة آلات التصوير ، ومستلزماته الفنيّة
آنذاك . ويبدو أنّ الماضي قد تغلب على هذه المشكلة بعد ذلك فكثير من الصور التي بين
أيدينا من تصويره واضحة جدا. " كان الماضي أفضل مصور في تلك الفترة . كانت صوره من
أحسن الصور حتى بعد مجيء المصورين المختلفين في السوق "
ولم يبخل الماضي بأن ينقل خبرته في التصوير للأجيال القادمة ، فراح ينقل هذه
الخبرة للشباب من أقربائه " كان عمّي أحمد هادئا، صموتا ، كثير النصيحة بالدراسة
وطلب العلم . شجعني يوما فأعطاني معجما ضخما للغة الإنجليزية جلبه من الهند في إحدى
سفراته . وأمّا لباسه فقد كان أوربيّا أنيقا . وهو يتعامل مع كاميراته في الاستوديو
بخفة ، وعندما يغادر الاستوديو يوصيني بشدّة على الكاميرات ، والاحتراس من أن يقوم
أحد ما بسرقتها أو خداعي بشرائها .. لقد درّبني على التصوير في الإجازة الصيفية من
الألف إلى الياء .. استخدام الكاميرا ، وتحميض وتظهير الصور . وعندما ينتهي النهار
، يضع جميع كاميراته في صندوق من الحديد ، عليه قفل كبير . و يعود لغـرفته
المتواضعة ، في منزل إحدى أخواته ، التي لم يمنعنا من دخولها قطّ . غرفة لا تحتوي
على غير سرير خشبي في إحدى الزوايا .. ولأنّه وسيم وذكيّ ويتقن اللغة الإنجليزية
كان له أصدقاء من الإنجليز "
" أكثر الأحيان كان أحمد ، وبعد أن يفرغ من الأستوديو ليلا يتوجّه إلى أحد
المقاهي .. ربما ذهب إلى مقهى الفارة أو مقهى ( أبو ضاحي ) وكلاهما فـي المنامة .
فلا يعود إلا متأخرا "
لم ينحصر اختلاف أحمد الماضي عن أهل الحيّ في ممارسته للتصوير فحسب ، ولا في
لباسه ، ولا قدرته اللغوية في اللغة الأجنبية ، بل وفي رفضه لممارسة بعض المقدسات ،
والثوابت ؛ لأنّها غير مقبولة عقليا لديه !! وتحمل العناء الكثير لأنّه لم يكن يرضى
أن يمارسها ! كما دعا إلى نبذ التعصّب الديني فلم يكن يسأل أحدا عن دينه الذي ينتمي
إليه .
" عندما سافر أبي الحاج أحمد عبد العزيز الماضي ( ت : 1979م ) إلى العراق برفقة
أمي اصطحب معه أحمد الماضي .. توجهوا إلى كربلاء .. مكثوا فيها .. أمّا هو فقد
غادرهما إلى بغداد .. صار يتردد عليها "
وليست هذه المرّة الوحيدة التي يسافر فيها الماضي إلى العراق فجواز سفره الذي
يحمل طوابع هندية يشير إلى أنه سافر إلى العراق بصحبة زوجته . كما يشير الجواز إلى
تاريخ وصوله إلى مدينة كربلاء المقدسة بالعراق وهو 19 يناير 1947 م . لكن هل كان
يغادر كربلاء إلى بغداد كما فعل عندما سافر برفقة الحاج أحمد عبد العزيز الماضي ؟
لا توجد معلومات حول هذه الزيارة . لكني أرجح أن الماضي لا يبقى في كربلاء بعد أن
استهوته بغداد أول مدينة عراقية اتصالا بالحضارة الحديثة .
قرأ الإنجيل واحتفظ بنسخ مختلفة منه ودعا الشباب المحاورين مــنهم إلى قراءته .
لم يكن يهتم بالتحوّل العقائدي لبعض الأشخاص في الحيّ ، ولا تغيّر الانتماءات
الدينية إذا لم تتغير الطبيعة الإنسانية الخيرة في هؤلاء الأشخاص . الماضي _ في
ظنّي _ لم يكن يُمرر شيئا إلى جهازه التنفيذي ما لم يمرّ هذا الشيء على سراط العقل
عنده " كان يقول : ما هو مرفوض اليوم ، سوف تحضنه الناس في المستقبل "
لعلّ دخوله في عالم ( الزقرت ) أو ( الزقرتية ) واحدا من الأمور القلائل التي
شارك فيها الكثير من رجال الحيّ . دخل ( الزقرتية ) ومارس ما اعتاد الرجال أن
يمارسوه فيها . وظهر بنفس المظهر الذي يتميز بــه ( الزقرت ( عن غيره . لكن الماضي
لم يستطع الاستمرار في التقيّد بقوانيــن ) الزقرتية ( الصارمة التي تتوقف كل
ممارساتها في شهر رمضان و المحرم وصفر . خرج الماضي على قوانين ( الزقرتية ( سرّا
يلتذ بها الخروج حتى كشفه رجال الحيّ . لكننا لا نعرف ما الذي جرى بعد ذلك !!!
من خلال سيرة هذه الشخصية أرى أن الرأي القائل بفشل البعثة التبشيرية في تحقيق
أهدافها في البحرين لا يصمد هنا . قد يكون التأثير العقائدي ضعيفا لكن تأثيرات أخرى
كانت قد تفعّلت وتغلغلت في المجتمع البحريني . لعلّ منها النظام والسلوكيات
الحضارية واحترام القوانين ، واستقبال الآخر ، وتعلم المواجـهة الذكية ، والتعايش
مع الديانات الأخــرى .
ويعود الماضي في أيامه الأخيرة ليلبس اللباس الشعبي : الثوب والغترة والعقال
ويلازم هذه الثياب ، يزينها بشت لا يفارق كتفيه .فيعود له إسلامه ومكانته بين رجال
الحيّ !!
" في هذه المرحلة صار أحمد الماضي يلبس الزي الشعبي ويبحث عن مجالس الخطابة التي
تقام على الإمام الحسين .. هدأ ذلك النشاط وحلّ محله نشاط آخر هو مناقشة الخطباء ..
كان يقول رأيه فيهم بصراحة ويعلق بسخرية إذا روى الخطيب رواية لم يقتنع بها .. مع
هذا الهدوء صار بعض الناس ينبسون خلفه .. لم يتوقف عن طبيعته وهي طرح الأسئلة
وإثارة الإشكاليات حتى في آخر أيامه .. كان يقول إن أهل البيت رجال سياسة لا دين ..
وأن هدف ثورة الإمام الحسين هدف سياسي "
هاهو يجلس بهدوء ويقوم بهدوء. يضع يده اليمنى ما بين حاجبيه ويضغط بشدّة مرّات
عدّة .. هل هو ألم التصوير عبر كلّ هذه السنين؟ أم هو شوق عينيه الى عدسـة الكاميرا
؟
توقّف الماضي عن مزاولة مهنته بعد عناء كبير ، وبعد أن أصـابه المرض . كان يشعر
أن في رأسه فوضى كبيرة مثل ضجيج الآلات والمطارق . كان يشير إلى أنّ خلط مواد
التحميض الكيماوية هي السبب ، وأنّها عملت له مثل الغلاف على دماغه ..هكذا شخّص
مرضه بنفـسه
" يبدو لي أن آلام الرأس لم تكن من خلط المواد الكيماوية التي يستخدمها في
عمليات التحميض . لكن أحمد الماضي كان يصعد كثيرا من الدور الأرضي إلى الدور العلوي
في الأستوديو وغالبا ما كانت تصطدم مقدمة رأسه بالسلم الضيق الذي يؤدي إلى هذا
الدور "
استمر ذلك المرض أربع سنوات ، قضاها في زيارة مجالس أهل الحــيّ و الحسينيات
نهارا ، وليلا . وزاد من ذلك ارتعاش يديه اللتين كانتا أكثر أجزاء جسمه ثباتا أمام
الكاميرا وهذا المرض ( ارتعاش اليدين ) لا يصيب إلا الأشخاص النشطين والحيويين في
حياتهم العملية .
" في آخر حياة احمد الماضي كنت قد قررت أن أدرس وأكون خطيبا عارض أبي ذلك . أما
الماضي الذي تربيت في كنفه فلم يعارض لكنّه قال لي : ولدي عندما تصعد المنبر تذكرني
"
" لا أعتقد أن احمد الماضي كان ناجحا .. كان فاشلا في حياته .. لم يفعل لنفسه
شيئا .. لم يؤسس بيتا .. مع ذلك كان مرحا أحيانا وقد يفرط في المرح .. اسمع .. حدث
ذلك ليلا عند مصلى النعيم .. كان عائدا إلى المنزل وعلى رأسه الدفة ( بشت أسود يشبه
عباءة النساء تماما ) .. شعر بملاحقة رجلين له من الحيّ هما : الحاج ( .. ) و الحاج
( .. ) كانا يظنّان أن أحمد الماضي امرأة .. عرفهما .. اقتربا من الماضي فأشار لهما
بيده من تحت الدفة .. اتبعاني .. فتابعا الملاحقة فلما اقتربا منه اختلافا حول :
لمن تكون هذه المرأة .. كل واحد يقول : إنها لي .. فلما اقتربا منها اكثر وكانوا قد
وصلوا مقبرة النعيم كشف لهما عن نفسه وهو يضحك "
" كان الماضي يرزق بأولاد لكنهم يموتون في الأشهر الأولى .. أمّا زوجته فقد كانت
تدعو عليه وتندب حظها .. سمعتها تدعو عليه حتى وهي تطبخ .. لم تكن مرتاحة إليه "
وفي عام (1976 م ) تصوره الدنيا آخر صورة له في حياته ... وتصوره أعين الناس ..
أعين مؤيديه ومعارضيه .. هو أيضا جلس أمام الكاميرا فصورته ووفت له بإخراج جميع
ملامحه واضحة وخصوصا عينيه ... عينان لم تتوقف يوما عن النظر في عيون الناس عبر
الكاميرا . مات المسلم النصراني بعد نزاع مع المرض في العينين والرأس .. وقع فانكسر
حوضه. نقل إلى مستشفى السلمانية ليكون آخر مكان يراه ويُــرى فيه ..
" دفن أحمد الماضي في مقبرة الحورة بالمنامة إلى جنب قبر أكبر رجال الدين في
النعيم هو السيد علي كمال الدين الغريفي "
رحل مخلفا وراءه تاريخا بحرينيا خالصا في مجال التصوير الفوتوغرافي ومجموعة من
الكاميرات ، وإكسسوارات التصوير وبعض الصـور ( أبيض وأسود ) ودروسا في مناهضة
التعصّب الديني و أخرى في استقبال الآخر ، ومجموعة من عقود الإيجار عثمانية أصلية
النسخ كان الماضي يهوى جمعها … مات ولم يبق من هذا الماضي إلا الماضي .
ربّما كان يحاول أن يضع رجله خطوة واحدة خارج السياج .. ليرى صورا غير الصور
التي اعتاد عليها .. صورا كلّها ملونة بلذة ما بعد السياج ..
(1) ليس لسيرة أحمد الماضي الذاتية مراجع أو مصادر مكتوبة ، ولكنني أخذت مادتها
الأولية من شفاه الذين عاصروه ، أو لازموه ، أو عاشوه معه . وبعد أن تأكد لدي أن لا
مزيد في ذاكرة الرواة عن هذا الرجل ، بدأت في تحويل هذا الشفاهي أو الشفهي إلى مادة
مكتوبة وفق منهج يحاول تجاوز ذلك المنهج التقليدي في عرض السير الذاتية .. إلى منهج
أظنّه حاول إعادة تركيب صورة للتركيبة النفسية التي تتشكل بمجرد احتكاك هذه الشخصية
بالعالم الخارجي ، فاعلة ومنفعلة ، وليس من لحظة كونها فاعلة في المجتمع . لذلك
كلّه استغرقت كتابة هذه السيرة أكثر من ستة أشهر فعلية .
اعتمدنا تاريخ مولده من جواز السفر الصادر باسم أحمد عبد الله الماضي في البحرين
بتاريخ 25 محرم 1366 هـ الموافق 19 ديسمبر 1946م . وهذا الجواز عبارة عن ورقة واحدة
، ويحمل رقم : 496 . ويشير الجواز إلى بعض أوصاف الماضي : منها الطـــول ( 4.5 )
قدم ، والعلامة الفارقة : أثر جدري في الوجه ، والصفة : مصور ، والعمر : 45 سنة ،
والعنوان ومحل الإقامة : ليس معلوما .
الراوي الحاج محمد علي مال الله ( 1913م - … )
الراوي الشيخ محمد عبد العزيز
الماضي . تربى في كنف أحمد الماضي الذي كان يموت أولاده في الأشهر الأولى من الوضع
.لذا شاهد الشيخ محمد معظم حياة مربيه أحمد الماضي .
الراوي الشيخ محمد عبد العزيز الماضي .
الراوي الشيخ محمد عبد العزيز الماضي
.
الراوي عبد العزيز أحمد الماضي .
الراوي عبد الواحد سعيد علاوي
الراوي الحاج محمد علي مال الله
آلة يدوية حادة لها رأس يشبه السهم تستعمل
لثقب خشب السفينة .
الراوي الشيخ محمد الماضي .
الراوي الشيخ محمد الماضي .
الراوي الحاج محمد علي مال لله
الراوي عبد العزيز أحمد الماضي .
الراوي
الحاج محمد علي مال الله
الراوي الحاج علي بن رضي المحروس ( 1911 م - .... )
الراوي الشيخ محمد الماضي
الراوي الحاج محمد علي مال الله
الراوي الحاج
عبد المجيد عبد علي يوسف الماضي .
الراوي عبد العزيز أحمد الماضي .
الراوي عبد العزيز أحمد الماضي
كان
الماضي يحتفظ بثلاث نسخ مختلفة من الإنجيل لا نعرف مصيرها.
الراوي الشيخ محمد الماضي .
الراوي الشيخ محمد الماضي
الراوي عبد العزيز
أحمد الماضي .
الراوي الشيخ محمد الماضي
رأي الراوي عبد العزيز أحمد عبد العزيز الماضي في
قريبه أحمد الماضي .
الراوي الشيخ محمد الماضي .
الراوي الشيخ محمد الماضي
.
وصل عدد العقود إلى ( 63 ) عقدا . بعضها يحمل تاريخ ( 16 شعبان 1318 هـ ) .
حول السيرة الذاتية للمصوّر الفوتوغرافي البحريني أحمد الماضي
( الراوي -
الكاتب - القارئ )
بقلم : حسين عيسى المحروس
لم يبقَ لي ـ وأنا أُلملمُ السيرة الذاتية للمصوّر الفوتوغرافي البحريني أحمد
عبد الله الماضي ( 1901-1976م ) ـ إلاّ الصوت مرجعاً في كتابة شاقّة / شائقة ... لم
يبقَ إلاّ الصوت ، وتحكّم الضمير الغائب النحويّ في سيرته الذاتـية ( الغيرية ) .
أو هكذا كنت أزعم أنّها سيرته الذاتية ، بينما هي للسيرة الغيريّة أقرب . ذلك لأنّ
كاتب السيرة ليس هو صاحب السيرة .. السارد حاضر ، والمسرود عنه غائب ، لم يبقَ منه
إلاّ الصوت وسيلة لضبط شخصيته . المؤلف هنا لا يساوي الشخصية ، بل لا يلتقِ بها
إلاّ عبر وسيط متعــــدد هو ( الراوي ) ... متى يتساوى المؤلف وصاحب السيرة ؟ هل
يتساويان في ظلّ وجود الخيال ؟ هذه قضية أخرى !! هل ما كتبته عن أحمد الماضي هو
سيرته الذاتية أم هو شبيه بسيرته الذاتية ؟ أم هو شديد الشبه بها ؟ ستكون سيرته هذه
درجات كدرجات القارئ وهو يحاول تحديد هذا الشبه بصاحب السيرة !! وفي السيرة الذاتية
سوف يبحث القارئ عن شيء آخر غير التشابه . سوف يبحث عن التطابق بين المؤلف والسارد
وصاحب السيرة لكن كيف سيحكم القارئ على هذا التشابه في السيرة الغيرية ، وكيف سيحكم
على التطابق في السيرة الذاتية ؟؟
كنتُ أبحث عن أحمد الماضي صوتاً .. تماماً كمَنْ يحاول تمييز شخصٍ من صوته في
الظلام .. بدأت أعرفه أو هكذا أزعم لأنّي رأيته صوراً متعددةً عبر أصواتٍ متعددةٍ :
راوٍ غاضب عليه ، قال لي " كان أحمد الماضي رجلاً فاشلاً ... " .. وراوٍ آخر معجب
به " كان ... كان .. " وهو يبحث في معجمه عن كلمات لا تخذل شدّة إعجابه ولا تقلل من
عظمة أحمد الماضي في داخله ، مع الحرص على تكرار ( مناقبه ) ... وراوٍ لا يجيب على
أسئلتي حتى يمررها عبر مصفاة دينية تقوم برفض أيّ سؤال تقود أجابته إلى الغِيبة !!
وراوٍ قريب منه فيه علامات شخصية الماضي نفسه ... لا يمكن والحال هذه إلا أن يكون
أمامك صـــور عن " أحمد الماضي " لا صورة واحدة .. كلّ راوٍ يشكّله بصوته ..
بروايته .. بجهازه الانتقائي الذي يعمل وفق رؤية هذا الراوي وثقافاته وانتماءاته ..
الذي يحدث في النهاية أنّ الراوي والمؤلف - في مثل هذه الحالة - يكونان خارج النصّ
، أو على حدوده - على الأقل - بينما يكون المؤلف صاحب السيرة داخل النص مع القدرة
على الخروج منه ، أو التنقل بين الخارج والداخل و يشكّل الصلة بينهما .
*****
قبل عام 1994 م لم أكن قد سمعت بـ " أحمد عبد الله الماضي " حتى بدأت اهتماماتي
النظرية بالتصوير الفوتوغرافي .. الراوي الأوّل نطق باسمه أمامي لأوّل مرّة . لم
أطلب منه أن يفعل ذلك !! ولم يزد على سرد الاسم والمهـــنة ( مصوّر في السوق ، يلبس
غير لباس حيّ النعيم ) . الراوي الثاني الحاج علي بن رضي ( 1911م - ... ) كان أوّل
مَنْ سألته عنه فبدأ روايته بحادثة سرقة الكاميرا الفوتوغرافية ، التي سماها (
مُعْكَسة ) :
" لم تكن معكسة ( كاميرا ) أحمد الماضي تنتج صوراً واضحة ، حتى كدت أمنع من
السفر إلى العراق لرداءة الصورة ...... ممّا اضطـــرّ أحمد الماضي إلى شراء معكسة
جديدة أخرى أمريكية الصنع ، كانت صورها واضحةً جداً ، إلا أن الماضي تفاجأ أنّ هذه
المعكسة التي اشتراها من أحد الأشخاص مسروقة من( الكومبني بابكو ) !! إلخ ..... "
وعلى الرغم من قدم هذا الراوي إلاّ أنّه لم يقل شيئاً أخر عن أحمد الماضي غير
هذه الحادثة .. فانتقلت إلى رواة آخرين وكنت أفضل القريبين منه حتى لا تتسع صوره
المتعددة فلا أستطيع لملمة هذه السيرة . لكنني توسعت في معنى القريبين منه فلم
أقصرهم على أقربائه وأهل بيته ، بل كلّ من أقترب منه ، وفهمه ، ولاحظ نمو سيرته .
كنت ازعم أنّني أنا الذي أُحرّك الرواة كيف أشاء في محاولة لتحقيق هدفي الأول من
كتابة هذه السيرة ، وهو الوقوف عند سيرة هذا الرجل في التصوير الفوتوغرافي ، ولم
يكن لي هدف غيره ، فرحت أعدّ الأسئلة للرواة في هذا الشأن فقط .. لكن .. حدث شيء لم
ألتفت إليه ولم أرَه على الرغم من أنّي كنت في وسطه !! .. الرواة تصرفوا بي بدلاً
من مزاعمي بالسيطرة عليهم والتصرف فيهم .. وجدت نفسي خارج التصوير الفوتوغرافي
تماماً ، بل إنّ التصوير هو آخر نشاطات هذه الشخصية .. فما الذي حدث ؟!
كان أوّل خروج على سيرة التصوير التي أبحث عنها انحراف أحد الرواة بالحديث عن
إدخال الطواش عبد الله ولده ( أحمد ) في مدرسة البعثة التبشيرية التي بدأت نشاطها
في البحرين عام 1902م .. وهذا الخروج من قبل الراوي هو أول خروج لـ ( أحمد ) بعد أن
بدأ يكوّن علاقات صداقة مع جنسيات مختلفة خارج الحيّ .. ثم ّ انتقل هذا الراوي الذي
صار يدير الحوار بدلاً منّي ( أنا ) .. انتقل الراوي مباشرة للحديث عن اللباس (
الإفرنجي ) لأحمد الماضي وردود فعل أهل الحيّ تجاهه :
" كان يلبس اللباس الإفرنجي ( البدلة ) مع حذاءٍ أسود وربطة عنق أو وردة سوداء .
وهذه الألبسة مع البرنيطة ( الكبّوس ) إلى جنب أمور أخرى أثارت حفيظة بعض الرجال في
الحيّ فأعطوه نعوتاً مختلفة منها ( ... ) ، و ( ... ) ، والعاصي ، و ( البونيان )
والنصراني ، .. وعندما يخرج نصرانيّ الثياب لا يلقى عليه السلام ويُردّ عليه سلامه
..... "
صار لديّ أب مختلف في تفكيره عن آباء الحيّ ، وابن ( أحمد ) يدخل - لأوّل مرّةٍ
في تاريخ الحيّ - بعثةً تبشيرية للدراسة ، ويلبس لباساً مخالفاً لألبسة الحيّ ،
وتعرّض لنعوت مختلفة . وعلى الرغم من إعلان معارضة بعضهم في الحيّ وتضايقهم من
سلوكه فلا يحفل بهم ، ولا يتوقف عن هذا السلوك .. لماذا ؟!
لماذا يحدث كلّ ذلك ؟ ما الذي يدفع الأب إلى هذا السلوك ؟ كيف كانت العلاقة بين
أحمد والحيّ ؟ كيف استقبل أحمد الصدمة الأولى .. صدمة الحضارة .. عبر البعثة ؟ ما
الذي تغيّر في سلوكه وممارساته اليومية ، والدينية بعد البعثة ؟ ما أثر تكوينه
المباشر وغير المباشر في شخصيته ؟ كيف كان يختلف ؟ ما الذي أغراه بالاختلاف ؟
أسئلة كثيرة بدأت تتوالد أمامي خارج موضوع التصوير الفوتوغرافي .. الرواة
انحرفوا عن أسئلتي فانحر فت معهم لأجد نفسي في وسط مواجهات في الحيّ وفي المنامة .
فماذا تفعل عندما يقودك الرواة إلى غير الساكن ؟ عندما تقودك الرواة فإنّ ذلك يعني
أن الصوت الشفوي القادم من بُعد هو الذي يقودك ! .. بسببهم عرفت أن كتابة السيرة
الذاتية مفردةً ضرب من إقصاء تفاعلات الشخصية صاحبة السيرة . ولن ينتج عن ذلك سوى
جهاز بثٍّ صــــوتي ( الراوي ) مشوّه ، وجهاز استقبال ( الكاتب / القارئ ) يبحث
عمّا يملأ الفجوات والثغرات . وسف تبدأ لَملمة قاسية جداً لما يشكّل السيرة ، أو "
محكيّ الحياة " .
توقفت مدّة من الزمن عن مقابلة الرواة .. وبدا لي أنّ الكتابة عن تاريخ إنسان
مشهور ، مَرويّ عنه من أشخاص آخرين سيكون معنىً قديماً في كتابة السيرة ، بل ستكون
سيرة غيريّة لا سيرة ذاتية . وأن كتابة السيرة بأنواعها ستكون متعددةً وإن كانت هذه
السيرة (ذاتية ) ستكون يتساوى فيها المؤلف والسارد وصاحب السيرة . صار لديّ :
" سيرة إنسان مشهور رحل عن الدنيا فتكفّل الرواة بحكي حياته . وهو المعنى القديم
الذي أشرت إليه ، والذي وقعت فيه مُكرهاً.
" سيرة إنسان ليس مشهوراً بل ربّما غامضاً غير معروف ، مرويّ عنه شفوياً عن طريق
الرواة . لكنّه سرعان ما سيصبح مشهوراً عند كاتب السيرة على الأقل .
" سيرة إنسانٍ موجود ، يكتب سيرته الذاتية بنفسه .
" سيرة إنسان موجود يسرد سيرته لشخص آخر لكي يكتبها .
" سيرة في شكل اعترافات .
" سيرة في شكل مذكرات .
" سيرة في شكل رواية أدبية .
" ( …. )
وعلى الرغم من هذه التعددية في السيرة وجدت نفسي مستقبلاً لصوتِ الرواة ما دام
أحمد الماضي قد رحل في عام 1976م .. وتساءلت هل يجب عليّ أن أكون دقيقاً في سرد
الأحداث والقضايا كما هو الشأن في المذكرات ؟ هل من الضروري عليّ البحث عن الحقيقة
في الروايات ، والإشارة إليها على أنّ تلك حقيقة ، أو ذلك هو الحقيقة كما هو الشأن
في الاعترافات ؟ برزت أزمة مصطلح وأزمة التعامل مع الرواة ، وأزمة كبرى هي تحويل
الصوت الشفوي باللهجة العامية الدارجة إلى كتابة بالعربية الفصحى .. إعادة صياغة
الجملة أو تحويلها إلى جملة أخرى . أليس ذلك مخيفاً ستكون ؟!!
عدت إلى الرواة من جديد لكن لا لأبحث عن سيرة التصوير بل لأبحث عن " مَنْ يكون
هذا الرجل ؟ ماذا فعل ؟ ماذا فُعِلَ به ؟ … كيف كان ؟ وكيف صار ؟ " وبدأت مرحلة
جديدة في استقبال المرويات .. لكن .. كانت هناك مفاجأة أخرى تنتظرني .. فقد مارس
أحد الرواة اللعبة ذاتها فيّ .. قادني مرّة أخرى ليس خارج التصوير الفوتوغرافي ، بل
خارج شخصية أحمد الماضي تماماً . انتقل بي إلى حقل إيروتيكيّ خصب .. فانتقلتُ من
سيرة شخص إلى سيرة مكان .. مكان محدد جغرافياً لكنّه منطلق إيروتيكيٌّ . وجدت نفسي
في ذلك الحيّ القديم .. حي ( قِبلة ) ..
لماذا حي ( قِبلة ) بالذات وليس غيره ؟
هذا الراوي مختلف تماما عن باقي الرواة .. هذا الراوي لا تحتاج الكثير من الكلام
المحفّز له على الرواية .. أقول كلمتين فيعرف ماذا أريد !! .. يبدأ في فعل الروي
فلا يتوقف إلا حين يشعل سجارة جديدة .. يشفط الدخان إلى داخله ثمّ ينفثه في الهواء
بعد أن يرفع رأسه إلى الأعلى قليلاً .. ينظر إلى الدخان ثمّ ينظر في وجهي كأنّه يرى
أشياءً في الدخان ..
" عندما ينتهي أحمد الماضي من عمله في عكّاس الماضي ليلاً يتوجه إلى بعض المقاهي
مثل مقهى الفارة ، أو مقهى ( أبو ضاحي ) وكلاهما في المنامة "
ـ أعرف أنّ كلاهما في المنامة . لكن لماذا قدّمت ( الفارة ) على ( أبو ضاحي ؟ )
ـ لأنّه أكثر من الجلوس فيها ؟
ـ لماذا ؟ هل هناك سرّ ؟
ـ لا .. لكنّها تقع في حي ( قبلة )
ـ وما حي قبلة ؟
ـ تريد أن تقول أنك لا تعرفه ؟
ـ سمعت عنه لكن كيف يبدو لأحمد الماضي ؟ ما العلاقة بينهما ؟
يضع السيجارة في فمه ويشفط شفطة طويلة فأعرف أنّه سيقول شيئا كثيراً . وما هذه
الشفطة إلا استعداد لذلك ..كأنّما يعين ذاكرته على البدء من أوّل فيلم حي ( قبلة( ،
أو ربما يصنف مروياته إلى أقسام : قسم يمكنني أن أسمعه ، وقسم لا يمكنني ، وقسم
يمكن سماعه بشروط ، وقسم لا يأتي إلا رمزاً ولغزاً ..
يحاول الراوي استعادة المادة المسرودة ، ومحاولة صياغتها وتقيمها للكاتب /القارئ
على أنّها مادة مطابقة لما حدث . لكن أيمكن لمادة مرّ عليها وقت ليس قصيراً أن
تحتفظ بأصليتها ومطابقتها للحدث ؟ قد توحي إلى تلك الأحداث لكنها لن تطابقها بعد
رحلة عبر وسائط ثقافية متعددة ومتباينة . " فاستعادة تاريخ الحياة ، تخضع في الغالب
لشروط زمن الاستعادة ، ووجهة نظره ، ومستلزمات التعبير عن ذلك ، أكثر ممّا تخضع
لشروط المسار التاريخي لتلك الحياة ، .. عبد الله إبراهيم ( مجلة نزوى ) 14/ص17 ..
"
كنت أحاول - وأنا أستمع لهذا الراوي - أن ألفت انتباهه إلى أنّني مهتم به
وبمروياته . ربما لا يحفل القارئ بكاتب السيرة ولا بالرواة وهذا أكثر . القارئ سوف
يحفل بالسيرة ذاتها لا بمتعة الكاتب في الكشف والفضح وإعادة خلق السيرة .. الرواة
يحتاجون للإطراء أحيانا وبيان أهمية ذاكراتهم وموسوعاتهم عن المميزين من الراحلين .
وأحياناً لا تعمل ذاكراتهم إلا بالاستفزاز .
ـ أنت تعرف مكان حيّ ( قبلة ) ؟
ـ جفرافياً نعم .. لكن كيف كان يبدو لأحمد الماضي ؟
ـ مكاناً لمعتة لا توجد في غيره من الأمكنة !
ـ ذاكرتك تتسع لأكثر من ذلك !
ـ كان زقرتياً .
ـ وما الزقرت ؟
عاد الراوي للحديث عن الجغرافية المكانية لحيّ ( قِبلة ) وكأنّا لم نتفق ـ قبل
قليل ـ على معرفتنا بها !! كأنّه يريد أن يضيف شيئاً ما متلازماً مع الجغرافية ..
وحتى لو لم يضف شيئاً ، لا بدّ من الصبر على تكرار الرواة فهو من سمات الخطاب
الشفوي ..
" لا يفصل حيّنا عن حيّ ( قبلة ) سوى هذا الشارع الذي تراه ممتدّا من الجنوب إلى
الشمال حيث البحر .. إذن بيننا شارع واحد فقط .. عشرة أقدام .. هذي هي الحدود !! ..
وطبيعي أن يحدث تأثّر .. وطبيعي أن يكثر الزائرون من حيّنا إلى حيّ ( قِبلة ) ... "
ـ ماذا تقصد بالتأثّر ؟ .. مَنْ هم الزائرون ؟!!! سألتك ما الزقرت ؟!!
أشعل سيجارة أخرى وطلب لنا شاياً وماء .. بدا في وجهه متعة الحديث .. كنت خائفاً
أن لا تتسع أوراقي .. حسنٌ سأقوم بتصغير خطّ يدي .. لا اعتقد أنّي أستطيع تصغيره ..
عدّل ثيابه ثمّ أفرغ مطفأة السجائر في سلة القمامة ..
" يختلف الزقرت عن زوار الحيّ العاديين .. الزقرت مهندمون . يلبسون أحلى ما
عندهم من ثياب عربية ويتعطرون بالبخور وغيره من العطور المشهورة .. لهم قوانين
خاصّة مَنْ يخالفها يُخرج من دائرة الزقرت .. هم قليلون في حيّ ( قبلة ) .. وهم ...
"
لم ينته من حديثه عن الزقرت حتى عرفت مَنْ هم .. سرد الفروق بينهم وبين الناس
العاديين .. ضرب لي من الأمثال الكثير الكثير .. عدد أسماء رجال ونساء أكثرهم مات ،
وكأنّه موسوعة للموتى !! نسينا أحمد الماضي كما نسيناه من قبل كثيراً ، وكأنّه ليس
هو الباعث لهذا الحديث .. لم يتوقف الراوي العليم حتى عرف أنّه قال أكثر الذي عنده
ولم يبقَ إلا ما لا يمكنني أن أعرفه ، أو هكذا أزعم أمام راوٍ من رواة هذه السيرة
لا السيرة ذاتها .
ـ لنعدْ إلى أحمد الماضي .
ـ حسنٌ لنعدْ إلى هذا المتمرد .
ـ المتمرد ؟!
ـ " نعم .. أليس هو الذي كان يجهر بالاستماع إلى جهاز الراديو أمام أنظار الحيّ
ومسامعهم ؟ أليس هو الذي لم يخفْ من النعوت التي يُرمى بها كلّ مَنْ يلبس ساعة اليد
بدلاً من ساعة الجيب ؟ على الرغم من قسوة النعوت ؟ أليس هو .... "
ظلّ هذا الراوي العليم يسرد (متمردات ) أحمد الماضي وانزياحاته حتى انتهى ببيان
حكمه علة ممارسات الماضي " بعضها صحيح والآخر غير ذلك "
ـ ربّما لبس الساعة في اليد فيه تشبّه بلبس أساور النساء ؟؟
ـ ربّما .. لكن الصحيح أنّها عادة غربية مرفوضة جداً .. الغرب وعاداته مرفوضان
..
ـ والراديو ؟
ـ ( .... ) ...
أسوأ الأحوال أن يجنح بك الخيال في حضرة الراوي العليم فلا تعدْ قادراً على سماع
صوته القادم من بعيد .. تنتقل إلى تخيّل الشخص المروي عنه لتضيف إلى صوره في ذهن
الرواة صورة أخرى من صنعك أنت و الرواة أيضا . وكأنّك تستبقِ القارئ في تكوين هذه
الصورة لأحمد الماضي ..
هنا .. كم من الروايات على طاولتي ؟ .. أصوات تملأ غرفتي ؟ .. لا وثائق غير صورة
فوتوغرافية واحدة تملؤها عينان واسعتان وأنف كبير .. نسخة من جواز سفر من
الأربعينيات ( ورقة واحدة ) .. لا وثائق غير أصوات تتشابه وتتناقض وتكرر نفسها ،
وصورة خيالية من صنع الرواة وصنعي .. فكيف يمكن تحويل كلّ ذلك إلى كتابة ؟؟؟!!!
ـ عندي كلّ شيء عن أحمد عبد الله الماضي !
صوت جديد .. صوت الراوي الذي لم يقل ( ما أدري ) ! ماذا تبقى من فراغ على طاولتي
؟ فهذا راوٍ جديد سوف يزيد التشابه والتناقض والتكرار في الروايات .. هذا الراوي
المكين !! وعليّ أن أستقبل كلّ ذلك ، وأن يكون كلّ راوٍ جديداً عندي في لحظته ، فلا
يحدث التمايز إلا لأسباب استراتيجية .
ملحوظة : نشرتْ مجلة (البحرين الثقافية ) دراسة سيرية بعنوان ( أحمد الماضي ..
صور مُلونة بلذة ما بعد السياج ) في عدد يناير 2001م .