الوقت - حسين المحروس:
يعرفون أنّه سيخرج عليهم غاضباً من شرفة بيته، وأنّهم سيغادرون حاملين كرة القدم الصغيرة مثل كلّ يوم لكنهم يعودون، يلعبون، يتلاسنون، يضعون خططاً ليس لها زمن ويلعبون، ينسون. يخرج عليهم بإزاره وقميص نومه، نظارته الطبية، عينيه الصغيرتين، ووجهه المحمرّ في أقصى مراتب الجدّة. يصرخ " ياوليدات.. هذا ليس مكان اللعب. روحوا مكان آخر". يسكت فيهم اللعب. يحملون الكرة. يغادرون. يأتون في اليوم الثاني لأنهم ينسون.
كم كان يحبّ لعبة كرة القدم، والمصارعة الحرّة حدّ الهوس لكنّه لم يلمس الكرة، ولم يصارع غير طموحاته منذ الصغر. أن تعشق الشــــيء لا يعني أن تلمســـه. لا يعني أيضــاً أن لا تصارعـــه.
ولأنّ عبدالله لا يسعد بالاستقرار في مكان، غادر محطة كهرباء "راس رمان". هذه المرّة صار قريباً من جسد الإنسان. عمل مساعد ممرض في مستشفى النعيم الصحي. اقترب بلغته الإنجليزية أكثر فتولّع بكتب الطب الأجنبية، يستعين عليها بمعجم ضخم يحمله في كل مكان. حفظ أسماء الأمراض المعدية وما يقابلها في اللغة العربية. وفي العصر يتوجه لمدرسة عبدالرسول التاجر الأهلية. هو يختبر المهن بالتجربة لا بالسماع وهذا يحتاج إلى المزيد من الوقت والجهد.
الطريق إلى أرامكو
يبدأ الطريق - أحياناً- بدعوة.
في العام 1935 كان عبدالله يعمل في صيانة "البطاريات" في شركة النفط "بابكو" مع كلّ من السيد حمزة العلوي من المنامة، ومحمد الصديحي من المحرق. يقول عبدالله "البطاريات هي خزانات النفط الكبيرة يتجمع فيها النفط المقبل مباشرة من الآبار. لم يمضِ كثيراً حتى استقال الصديحي - الذي نسميه أحياناً بالقصاب مازحين- وراح يعمل مصوراً فوتوغرافياً في مكتب استصدار بطاقات الموظفين التعريفية في شركة "أرامكو". هناك التقى بفتاة في منطقة "الثقبة" وتزوجها".
غادر عبدالله بابكو وصار يعمل منظفاً في نادي العروبة. لكنه منظف من نوع مختلف. منظف يقرأ ويكتب ويشترك في المسابقات الأدبية. ترك عبدالله بابكو ليتفرغ للدراسة أكثر؛ فالعمل في نادي العروبة لا يشبه العمل المضني في بابكو.
التقى عبدالله بصديقه محمد الصديحي أيام عودته في البحرين فدعاه الثاني للعمل في أرامكو بعد مقدمة ليست طويلة. يروي عبدالله "طبعاً راق لي الأمر ورحت أنجز إجراءات السفر إلى خارج البحرين لأول مرّة: جواز السفر أولاً. لكن مسؤول الجوازات آنذاك، ويدعى "كاظم العصفور" قال لي "عمرك صغير وقد لا يسمح لك باستصدار جواز سفر. الحل هو نعمل بعض التغيير في سنة مولدك". فجعلها العام ,1926 وصارت رسمية بعد ذلك".
- وما تاريخ مولدك في الأصل؟
- لا أعرف.. ليس هناك سجل ولا شهادة ميلاد.
- لماذا تخفي تاريخ مولدك.. لا فائدة من ذلك!
- هههه صدقني لا أعرف!
- صدقتك.
غادرا فرضة المنامة ظهراً على ظهر سفينة. وبعد ثلاث ساعات وصلا. صليا معاً في ميناء الخبر. يقول عبدالله "في البدء سكنت معه في منزله برعاية زوجته لحين توظيفي في أرامكو "راس تنورة"* مساعد ممرض لطبيب الأسنان بعد يومين فقط. صرت أسكن مع الطبيب في بيت واحد وأتنقل معه بين أرامكو في رأس تنورة وبين بابكو في البحرين. لكن العمل في رأس تنورة لم يرق لي كثيراً فتركتها وعدت للعمل كاتباً على الآلة الطابعة في بابكو حتى العام .1949 كان معي شخص واحد فقط يطبع على الآلة الإنجليزية يدعى يعقوب من المحرق".
أرامكو.. مرّة أخرى
عاد عبدالله لأرامكو رأس تنورة في العام 1949 نفسه. ما الذي حدث؟ لماذا عاد؟ لا نعرف غير أنه كثير التباهي بلغته الانجليزية وأكثر ثقته صنعها من إتقانه لهذه اللغة. هناك عمل في حقل تدريس موظفي أرامكو خمس سنوات، وربّما أكثر مع معلمين عرب وأجانب يذكر منهم فلسطينياً نعته بـ "عبقري اللغة الانجليزية" تعلم منه عبدالله الكثير. يروي "لمرض أصاب لساني صغيراً جعلني غير قادر على لفظ بعض الحروف الإنجليزية لفظا سليماً. لكن عبقري الإنجليزية اهتم بي، وصار يدربني على نطق هذه الحروف. وكلما أخطأت صرخ في وجهي حتى تمكنت منها"
طلبه مسؤول النقليات في أرامكو، وهو إنجليزي يدعى "ريتشارد" للعمل معه سكرتيراً خاصاً له في مكتبه. ولأنّه لا شيء أهم من الموصلات في شركة ضخمة مثل أرامكو كان العمل في مكتب "ريتشارد" شاقاً، دقيقاً، وصعباً للغاية. يقول عبدالله "ومرّة عملت رسالة طلب لبعض الأدوات المكتبية للقسم الذي أعمل فيه، منها: دزينة أقلام رصاص وقعها "ريتشارد". ولكن بعد التوقيع وجدت أني أحتاج دزينة ونصفا، فغيرتها في الرسالة وبعد التوقيع. لكن المسؤول الهندي وجد فرقاً بين الرقمين فاتصل بريتشارد يخبره بذلك. استدعاني وقال "لولا أني جعلتك ابناً لي، وأني في أمسّ الحاجة إليك لأقلتك فوراً".
بابكو.. مرّة أخرى
رشّحت أرامكو عبدالله لمواصلة دراسته المتقدمة في اللغة الإنجليزية والسكرتارية المتعلقة بشؤون النفط فأرسلته مرّة أخرى إلى "بابكو" في مدينة عوالي. كان الأستاذ يدعى "قريقر" لكن عبدالله وصديقه في الدراسة السيدعلي النعيمي -من المحرق- والمرسل من أرامكو أيضاَ صارا ينطقان اسمه بشكل ضاحك. يقول عبدالله "ولأنّي إنجليزيتي هي الأفضل كان يجعلني أتحدث معه كثيراً. كان يجري لنا مسابقة في الطباعة على الآلة الكاتبة فكنت أطبع ثمانية وستين (68) كلمة في الساعة، وعلي يطبع (65) سرعتنا متقاربة".
من الأحداث التاريخية المهمة لشركة أرامكو
* 1933: المملكة العربية السعودية تمنح امتياز التنقيب عن الزيت لشركة كاليفورنيا ستاندارد أويل كومباني (كاسوك)، وهي شركة منتسبة لشركة ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا (سوكال، التي تعرف اليوم باسم شيفرون). وهكذا يبدأ التنقيب عن الزيت على الساحل الشرقي للمملكة.
* 1936: شركة تكساس (التي تعرف الآن باسم تكساكو، وهي جزء من شيفرون) تتملك حصة تبلغ نسبتها 50% في امتياز سوكال.
* 1938: أول حقل زيت تجاري يكتشف في الظهران، ويتم تصدير الزيت الخام عن طريق الصنادل إلى البحرين.
* 1939: تصدير أول شحنة زيت يتم تحميلها على ناقلة.
* 1944: كاسوك تغير اسمها ليصبح أرابيان أمريكان أويل كومباني (أرامكو).
* 1945: معمل التكرير في رأس تنورة يبدأ أعماله.
*1948: شركتا ستاندارد أويل أوف نيو جيرسي وسوكوني فاكيوم أويل (وكلتاهما الآن إكسون-موبيل) تنضمان إلى سوكال وتكساكو في ملكية أرامكو.
* 1950: إنجاز خط الأنابيب عبر البلاد العربية (التابلاين) الذي يربط بين حقول الزيت في المنطقة الشرقية ولبنان على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
* 1951: اكتشاف حقل السفانية، أكبر حقل زيت في المنطقة المغمورة في العالم.
* 1956: أرامكو تؤكد نطاق حقلي الغوار والسفانية، ليصبح حقل الغوار أكبر حقل زيت في العالم، فيما يحتل حقل السفانية صدارة أكبر حقول الزيت في المنطقة المغمورة في العالم.
* 1961: معالجة غاز البترول المسال (البروبان والبوتان) للمرة الأولى في معمل التكرير في رأس تنورة ونقله إلى العملاء.
1966: الناقلات تبدأ في الرسو في الجزيرة الاصطناعية، وهي منصة تحميل الزيت الخام الجديدة في مياه الخليج العربي مقابل رأس تنورة.
* 1973: حكومة المملكة العربية السعودية تتملك حصة تبلغ 25% في أرامكو.
* 1975: إطلاق مشروع شبكة الغاز الرئيسة.
* 1980: حكومة المملكة العربية السعودية تتملك أرامكو بالكامل من خلال شراء معظم أصولها.
الهوامش:
*رأس تنورة (رحيمة) تقع في شرق المملكة العربية السعودية وتبعد عن مدينة الدمام العاصمة الإدارية للمنطقة الشرقية 70كم ويبلغ عدد سكانها حسب إحصــاء العــام 2004 43 ألف نسمة، 71% منهم سعوديون. المدينة كانت تحمل اسما آخر هو رحيمة، تعود أسباب تسمية رأس تنورة بهذا الاسم إلى أنها على شكل رأس ممتد في البحر إضافة إلى وجود دوامة بحرية أشبه ما تكون بالتنور. أما مسمى رحيمة فمنها أن سكان شركة الزيت عندما أقاموا منازلهم أقاموها بجانب عين رحيمة، وكذلك إلى أن الأسماك كانت تعلق بالشعب المرجانية في المد والجزر فكان السكان يأتون لأخذها بكل يسر فسميت رحيمة لرأفتها بهم.
فـي الحلقة المقبلة:
* عبدالله إبراهيم.. عبدالله الوطني
* مدير إسكان أرامكو راس تنورة.
نقلا عن صحيفة الوقت (العدد 1155 الاثنين 24 ربيع الثاني 1430 هـ - 20 أبريل 2009 )
http://www.alwaqt.com/art.php?aid=160788