لأنّك تبقىفي العشرينات من القرن العشرين تزوجتِ السيدة شرف السيد مكي زوجها الثالث 'إبراهيم' واستقر بها في قرية 'القدم' إحدى قرى شارع البديع، غرب العاصمة المنامة. تزوجها بعد أن توفيت زوجته، أختها، وبعد أن توفي زوجها الثاني يعقوب. ولدت له بنين وبنات ماتوا كلهم. وفي النصف الثاني من العشرينيات أنجبت مولودها الأخير 'عبدالله'. ولأنّه لم يمت نعتوه بـ 'حياة'، وصاروا يلفظونها 'هيات'. النعت الحيّ 'حياة' لمَنْ فاته الموت. يقول عبدالله 'أنا أصغر إخوتي الأربعة من الأم: أحمد وسلمان أبوهما 'محمد' من قرية دمستان. بعد أن توفي صارت أمي تعيش في بيت شقيقها القلاف السيد إبراهيم الذي جعل أخوي: أحمد وسلمان يعملان معه في صناعة السفن ثمّ زوجهما من بناته. بعد فترة تزوجت أمّي من زوجها الثاني 'يعقوب'من قرية السهلة وأنجبت منه أخويّ: محمد ويوسف. أنا أبي 'إبراهيم' من قرية القدم. مات إخوتي جميعاً صغاراً وبقيت أنا الشقيّ'
- هههه.. لماذا 'الشقيّ'؟
- هههه لأنّك.. لأنّك تبقى.
قبل أن يبلغ الطفل عبدالله عامه الثاني توفي أبوه 'إبرهيم'، فصار مع أمه في رعاية أخواله في قرية 'الحجر'، إحدى قرى شارع البديع. لكن مرض أخواله جعل أمه تبحث لها، وله عمّن يرعاهما، وليس أفضل من خاله السيد هاشم الساكن في منطقة 'رأس رمان' في المنامة. توجهت العائلة الصغيرة: عبدالله وأمّه إليه واطمأنت. يروي عبدالله 'كان عمري ست سنوات تقريباً. صار عندي رغبة في الدراسة لكن ليس لدي المال الكافي لذلك. وجدتُ معلم قرآن يدعى السيد حسن فأخذتني أمي إليه ليعلمني الأحرف الهجائية العربية. عملت 'صبياً' في دكان السيد حسن الرأس رماني. لم أبقَ كثيراً عنده. انتقلت للعمل في دكان الحاج علي العرادي وكلاهما يبيعان المواد الغدائية مثل الرز، السكر، الطحين، والبهارات وغيرها. كانت أجرتي مئة وخمسين فلساً في الشهر. يبدأ يومي بتنظيف الدكان وكنس أرضيته وترتيب مواده. ولأنّي لا أملك قيمة شراء دفتر رحتُ أجمع علب السجائر من أمام فندق 'أوال' في وسط المنامة حتى بيت خالي وأتسلى بتهجية ثمّ كتابة عناوين المحلات التجارية على القصاصات الورقية التي في داخل علب السجائر. بهذا الشكل أتمرن على الكتابة. كثيراً ما كنت أكتب على الجدران بالفحم.'
لغة الكفّارلم يمض كثيراً حتى انتقل أخواه القلافان الشابان: أحمد وسلمان للعيش في منطقة رأس رمان. ولقرب منزلهما من البيت الذي تعيش فيه أمهما انتقلت مع طفلها للعيش معهما. صار تحت رعايتهما لكن أخيهما الصغير يشق له درباً مختلفاً تماماً. لم يكتف بدروس اللغة العربية الأولية فالتحق بمدرسة عبدالرسول التاجر الأهلية*. اللغة الإنجليزية غايته. يقول عبدالله ' كانت عيني على تعلم اللغة الإنجليزية وعين أخي غير الشقيق الحاج سلمان عليّ لكن ليس بما أحبّ. كان يضرب باب غرفتنا: أنا وأمّي كلّ صباح ويتهددني بالضرب إن أنا واصلت تعلّم اللغة الإنجليزية. قال لنا 'هي لغة الكفار'. وكم مرّة هوت يده عليّ إفطاراً صباحياً غير عادي لتقدمي في تعلّم هذه اللغة. وكلّما تهددني كبرت فيّ الرغبة في طلب المزيد. تعلمت اللغة والطباعة على الآلة الكاتبة الإنجليزية'.
كان اسمها «شيخة»لما بلغ عبدالله الثامنة تقدّم للعمل في دائرة الأشغال. شفع له صغر سنه عند السائق 'عبدالقادر' لما وجده غير قادر على حمل 'طابوقة' واحدة فضمّه لفريق الحمالين في سيارته. كانت إدارة الأشغال حينها تعمل في بناء مستشفى النعيم. يأتي موعد الغداء فيأخذ 'عبدالله' معه إلى بيت عائلته في المحرق. يروي عبدالله بهدوء 'كانت زوجته تهتم بي مثل طفل من أطفالها: تطعمني، وتتفقدني. كان اسمها شيخة'.
بيت الكهرباءعلى الرغم من سعادته كلّما دخل بيت 'شيخة' إالاّ أنه لم يبقَ كثيراً في دائرة الأشغال. كأنّه يبحث عن شيء لا يعرفه لكنّه يشعر بحومانه من حوله. أكدّ ذلك مرات كثيرة في جلساتنا بكثرة استخدامة لكلمة 'الطموح' ومرادفاتها، وأنّها تجعله لا يبقى في عمل طويلاً. غادر دائرة الأشغال والتحق بدائرة الكهرباء في منطقة 'رأس رمان'. كان اسمها في تلك الفترة (Pour House)، ولا أحد يعرفها بغير هذا الاسم. يقول عبدالله 'في الـ (Pour House) عملت مراقباً لمولدات الكهرباء مع مجموعة من الآسيويين في الليل. رغب أخي غير الشقيق 'يوسف' الذي يكبرني بخمسة عشرة سنة في العمل في الـ (Pour House) فتحدثت مع أحد المسؤولين عنه، وتمّ قبوله.. هههه لقد وظفتُ أخي الكبير'.
بيت الحليبومن بيت الكهرباء إلى بيت الحليب. هذا الصبي لا يستقر في مكان. يستيقظ في الفجر ليبيع الحليب على 'خانات' المنامة وفنادقها الصغيرة. يروي عبدالله 'تركت العمل في الكهرباء وصرت أعمل في بيع الحليب لدى الأخوين: عبدالرسول وعباس العراديين، اللذين يملكان مجموعة من الأبقار. كان عليّ حمل إناءين كبيرين من الحليب، يزن الواحد منهما سبعة (7) كيلوجرامات فجر كل يوم لبيعها في بعض فنادق وخانات المنامة. لا يقتصر عملي على هذا فبعد أن أنتهي في الساعة السادسة تقريباً أعود لرعاية الأبقار في زرائب البقر في حيّ 'المخارقة' بالمنامة.
وإذا جاء العصر توجهت إلى مدرسة عبدالرسول التاجر أتابع دروس اللغة الإنجليزية والطباعة على الآلة الكاتبة الإنجليزية كما قلت لك في جلستنا أمس'.
الهوامش:عبدالرسول التاجر، أسس مدرسة أهلية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة في العام 1945 تخرج فيها المئات من الذين تعلموا الضرب على الآلة الكاتبة باللغتين العربية والانجليزية في الفترات: الأربعينات، الخمسينات، والستينات. كان يدرّس اللغة الانجليزية والرياضيات. فتح مدرسة للجنسين: الذكور والإناث، وله طريقة خاصة في التعليم، أن يطوف على طلابه في سرعة فائقة لإرشادهم وتوجيههم. أسّس مكتبة خاصة باسمه في منطقة 'الحورة' ضمّت الكثير من الكتب، و(88) مخطوطة. للمزيد انظر: سرحان، منصور 'المكتبات في البحرين'، ص 34 ط,1 الخليجية العالمية للاستشارات، 2001.