أيما الأجلين نقضي لدفع الضررين
كريم المحروس
بعد نصف ساعة من القراءة الفجة لتطور الأحوال في جزيرتنا المنكوبة سياسيا؛ حضرت عندي فجأة صورة "الثعلب الجوعان" وبلا عناء للتبادر في الاستدعاء الذهني، وكأنها الصورة التقليدية المكتسبة الوحيدة القابعة في الدرك الأسفل من الحافظة منذ سبعينيات القرن الماضي، والتي لها من التميز ما يجعلها تتفرد من دون غيرها بصفة التطابق مع آخر أحوال التناوش الزعامي الرمزي والقيادي والمرجعي المكشوف، والتدابر في شأن آخر نتائج المقاطعة والمشاركة، بين قائل: إن مرجعيتنا هي الأولى بالتمثيل، وعلى من هم أقل رتبة المبادرة إلى تجميد مراميهم السياسية والتبتل في إعلان فروض الطاعة والتسليم في جميع الأحوال والظروف وان "ضُرِبْت على ظهرك" أو كانت المرجعية بـ"رأس زبيبة". وبين قائل: إن التمرد على الزعامات وفيما بينها مظهر من مظاهر الهزيمة غير المعلنة قد اتخذ سبيله بين جهلة عامة الناس بلا موانع، فَجَرّْ من خلفه كل بطانة من العقلاء تبعا، برغم الإجماع في الربت على الأكتاف والتداول السلمي الأخير لألفاظ تساوي أو تفاوت المراتب والمواقع بين الزعامات ذاتها في صور رعاية "رمادية" ومدارة ومسايسة وحرص على تماسك التيار الاجتماعي.
"الثعلب الجوعان" صورة مثالية أظنها تستعصي على أسباب المحو في ذهن كل مواطن بحراني، تخطى مراحل الدراسة الابتدائية على المنهج المصري المعتمد في جزيرتنا حتى مرحلة متأخرة جدا من القرن الماضي،وترعرع بين مظاهر الانفلات المعارض بسبب تهافت الخيارات الزعامية التي كان مآلها التزاحم والتناوش على الرتب المفضي إلى ذهاب الريح.
إنها صورة لثعلب غرته حمرة العنب في حديقة اكتشف لاحقا أن لا منفذ لها إلا ثغرة واحدة ضيقة جدا في الجدار، فما كان له من حيلة غير الصيام لثلاثة أيام متتالية تعينه على دفع الضرر بكسب درجة معقولة من الهزال الجسدي وتحقق له استطاعة الدخول من خلال تلك الثغرة. ثم من بعد أيام هنيئة تبعتها أخرى بين ما لذ وطاب من فواكه الحديقة وخضرتها رفعت من عضلات صدره وزادته تضخما وهيبة؛ كان دفع الضرر مرة أخرى موجبا لصيام ثلاثة أيام متتالية حتى تتحقق للثعلب استطاعة الخروج من ثغرة الجدار بلا عضلات مفتولة ولا صدر بارز ولا هيبة يعتد بها، فكان لزاما عليه أن يعترف أمام الحقيقة المرة بالقول: "دخلتك وأنا جوعان وخرجت منك وأنا جوعان".. وخيراً فعل باعترافه هذا!
المتميز المهم بين أحول التناوش في جزيرتنا وبين خاتمة الثعلب الجوعان ، أن الثعلب اعترف في نهاية مهمته بخطئه الفادح من بعد الاجتهاد، وقاده ذلك إلى الإفصاح عن جملة اقتربت كثيرا من ألفاظ الحكمة والموعظة حين قال: "دخلتك جوعان وخرجت منك وأنا جوعان"، بينما نهض المتناوشون في جزيرتنا وآيتهم ألا يكلموا الناس إلا بقولين، وكل رجائهم أن تقال العثرات بلا تحديد للمسؤولية وان كان ذلك رمزا!.
قائل مركون مازلت معجب بصموده وكاره لرمادية موقفه: لماذا تلقون علينا اللوم في دعوتنا للتصويت لصالح الميثاق ، إنها فرصة عرضناها لإحراز الثقة بين مجتمع السيادة ومجتمعنا الخدمي ودحر الفواصل بينهما ، ولكن مجتمع السيادة لم يفقه نيتنا وغرضنا الحميد، فضيع الفرصة الذهبية بعد قرار الانقلاب على الميثاق، ثم زاد على ذلك بالانقلاب على الدستور. فإذا اليوم عادوا عدنا، والحرب سجال! .
وقائل مخالف يبدو منتفخ الصدر، أسقط ما تبقى من عزتنا في وحل الإعتدال المفرط بين مقاعد البرلمان: نحن تداركنا عثرة وضرر دعوتكم للميثاق ذي الشبهات الشرعية، وذلك من خلال المشاركة في البرلمان. وهاهم ممثلونا في البرلمان، يتضخمون يوما من بعد يوم، وترتفع صدورهم ، وتنتفخ أوداجهم ، وتسمو أنوفهم ، وتنمو فيهم عزتنا. فزدنا بذلك على رموزنا العزيزة رموزا أخرى لن تنادى منذ اليوم إلا بـ"أصحاب السعادة". فلماذا تلومون مشاركتنا والمنتهى الذي وصلت إليه أحوالنا في المجلس النيابي. فالعيب كله في النظام التشريعي ومجلسيه، ومن خلفهم مجتمع السيادة، ولا عيب في أعضاء كتلتنا الإيمانية!.
لو أدرك "الثعلب الجوعان" هذين القولين في مرحلتنا هذه من بعد غصة حادثة الحديقة والعبرة التي جناها من اجتهاده، لصام الدهر كله ، وربما يتساءل أمام رهطه: أي من هذين القولين هو أقرب عند الناس إلى أبواب الحكمة والموعظة. أرى تشابها في البقر؟!.. كلا القولين متشابه لا راجح بينهما. ولي أن أقطع – القول للثعلب – بأن القولين محكمان على منهج واحد فقط يكاد الجميع لا يرى فيه إلا "حكمة وموعظة" عنوانها: "العيب في مجتمع السيادة ولا عيب فينا ، فلن نخشى دركا بعد اليوم ولن نخاف لومة، فنحن الأعلون، شاء من شاء وأبى من أبى. وإذا ما أطل أحد برأسه ليبدي رأيا آخر فينا؛ قلنا له هذا مس بوحدة المجتمع وتوهين له ولقيادته، وهروب عن مناوشة مجتمع السيادة المتضخم في عناصر قدرته: نصوص ميثاق ودستور مصونة، تجنيس بلا حدود، تقسيم البلاد إلى نصف سيادي جنوبي تجري عليه أحكام الأصالة ونصف آخر خدمي شمالي تجري عليه أحكام التبعية والنذالة، حصة الأسد في المخصصات المالية، إسكان خاص بدرجة أولى، خدمات صحية واجتماعية خاصة بدرجة أولى ، مؤسسة معلومات خاصة، هيئة عقارية خاصة...الخ"!.
سبحان الله، ما أجمل الذهن خلقا لله تعالى، فهو كاشف لذاته ولغيره من المفاهيم والموضوعات. ويدخل في دائرة هذا الجمال عوامل تنظيف الذهن من المعلومات المتراكمة والمتزاحمة بين مرحلة عمرية وأخرى، حتى يبقى الذهن في ذروة النشاط واللياقة. والى ذلك تتفاوت درجات محو واستبدال بعض خزائن الذهن بين إنسان وآخر ،لكن الوظيفة الأكثر تعقيدا في الأذهان عموما منظورة في ندرة محو الصور الملازمة للمواقف والحوادث وما يستتبعها من أفكار صانعة لمستويات الوعي بالمحيط الاجتماعي. إذن، ما حيلة من تمسك ذهنه بصور الأمس النضالي وضعفت عنده منظفات الأذهان، وألامس ليس ببعيد!
نصف ساعة من الوقت الفج قيدتني بصورة ذهنية متكاملة لـ"الثعلب الجوعان" الذي دفع الضرر مرتين بين أجلين في مهمة واحدة فكانت الهزيمة من حلفائه في الظاهر والباطن: حين دخل الحديقة هزيلا وحين خرج منها هزيلا. وبين الدخول والخروج تذوَّق طعم نعمة لذيذة ولكنها غصبية ظن فيها رزقا لم توعد به السماء. ثم من بعد الإخفاق والاضطرار لدفع هذين الضررين؛ انسحب الثعلب من مهمته مدحورا مجردا من كل شيء فيما عدا الهزال "عن آخره" والحسرة على ما فرط في جنب نفسه.. فهل ستبرئ الأذهان للثعلب اجتهاده قبل أن يستبرئ بعبرة؟!..فربما يمنع اجتهادنا من العبرة في أحوال البرلمان !.أذن هل إلى خروج من سبيل؟
|