قالوا

 يعيش الجميع اليوم عصر الثورة المعلوماتية التي تنتشر فيها الأفكار و المعلومات بسرعة و سهولة من و إلى أي بقعة من بقاع العالم، و لكن ما فائدة هذا الكم الهائل من المعلومات في ظل هيمنة رأي واحد و فلسفة واحدة على نوعية هذه المعلومات، و أعني بذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي تعكس بمثل هذه الأفعال حقيقة العالم الذي تمثله و تريد في نفس الوقت.

الأستاذ علي السكري
من الذي صام؟ الدرازيون أم النعيميون؟   |    في ذمة الله الشَّابة زهراء عبدالله ميرزا صالح   |   ذمة الله تعالى الحاجة جميلة حسن عبدالله    |   على السرير الأبيض الحاج خليل إبراهيم البزاز أبو منير    |   برنامج مأتم الجنوبي في ذكرى ولادة السيدة الزهراء    |   في ذمة الله حرم الحاج عبدالله سلمان العفو (أم ياسر)   |    في ذمة الله الطفلة زهراء جابر جاسم عباس   |   نبارك للأخ الطالب محمد حسن علي ثابت حصوله على الماجستير في إدارة الأعمال    |   رُزِقَ الأخ عبدالله علي آل رحمة || كوثر || 12/12/2021   |   دورة تغسيل الموتى    |   
 
 الصفحة الرئيسية
 نبذة تاريخية
 أنشطة وفعاليات
 مقالات
 تعازي
 شخصيات
 أخبار الأهالي
 إعلانات
 النعيم الرياضي
 تغطيات صحفية
 ملف خاص
 خدمات الشبكة
 المكتبة الصوتية
 معرض الصور
 البث المباشر
 التقويم الشهري
 أرسل خبراً
 اتصل بنا
 
مقالاتالأستاذ كريم المحروس
 
المؤسّسة التعليميّة ومساراتها المتحـوّلة
- 2008/07/19 - [الزيارات : 4759]

المؤسّسة التعليميّة ومساراتها المتحـوّلة
قدّم الفكـرُ الإسلامي مناهجَ دينيّة عبّأت الطاقات العقليّة والوجدانية

كريم المحروس

الوقت :العدد 879 الجمعة 14 رجب 1429 هـ - 18 يوليو 2008

احتلت مؤسسة التعليم الديني حيزاً كبيراً من الاهتمام والرّعاية في العصر الحديث لما لهذه المؤسسة من تأثير بالغ وواسع على الحياة السّياسية والاجتماعية والثقافية اليومية للناس، ولما لها من طبيعةٍ معقدة انفردت بها علومها ونظرياتها ومناهجها ووسائلها ووسائطها وأهداف ذاتية وعلاقات مجتمعية سعت قُدماً من أجل تمتينها وتوثيقها. ولكون جهود الإصلاح والتجديد في هذه المؤسسة تشكل جزءاً أساسياً من التكوين الديني الثقافي الممتد إلى التكوين الاجتماعي في المحيط الناهض المترامي الأطرف، وتمثل هذه الجهود برموزها في هذا التكوين جهة فاعلة ومؤثراً كبيراً شاملاً لمختلف مناحي الحياة، فمن الأهمية بمكان دراسة ومتابعة الظروف الاجتماعية والسياسية المعقدة التي مرّت بها هذه الجهود ومؤسستها التعليمية وساهمت في جمودها حيناً ونمو نشاطها وعطائها العلمي وثقافي في مرحلة تاريخية خطيرة حينا آخر، وأدّت إلى تراجعها وتقهقر أدوارها العلمية ووظائفها العملية الأساسيّة في مراحل لاحقة، حتى مجيء عهد التحدّي الكبير المتميز بفكر التنمية والتنوير والتجديد.

المحيط الاجتماعي.. طبقية قبلية وطائفية
خضع المجتمع - موضوع الإصلاح - لضغط تقسيم فئوي غير مستقر نسبيا، وشهد صراع نفوذ مستبدّ خارج على دائرة القيم والمثل الدّينية. ففي الدرجة الأولى تصدّرت المجتمع فئة الحكام الذين أطلق عليهم مسمّى الخلفاء والأمراء والسلاطين ومن كان يليهم في التقسيم الإداري للسلطة، كرؤساء الدواوين والوزراء ورؤساء الولايات والأقاليم.

تصدّت هذه الفئة لزعامة الكثير من المعوقات والتحديات والنزاعات والانقلابات السياسية والعسكرية والإدارية، وتفوّقت في تداول عددٍ من العصبيّات الاجتماعية والقومية والمذهبية الطائفية وسادت بها فئات وطبقات المجتمع الأخرى، كما هي الحال بالنسبة لأوضاع الأمويين والعباسيين والأيوبيين ومن بعدهم العثمانيون الذين انشغلوا بمشروع التحوّل نحو ملكية قيصرية لم تول الوعي والعلم والثقافة أهمية، وأخذتها العزة بما كانت تملك وتسود، ومالت بالبلاد إلى نظم وعلاقات بغيضة هي أسوأ حالا من نظم وعلاقات الأحكام الملكية السائدة في دول أوروبا منذ عهد الروم حتى نهاية عهد القرون الوسطى، واتخذت من هيبة التعظيم لملوكها وتأليه سلاطينها وأمرائها سبيلا ومنهاجا. كلّ ذلك لم يمنع من رواج بعض الآثار الثقافية في الوسط الاجتماعي الموجّه والمقنن لصالح المركزية الطائفية والقبلية الحادة للخليفة أو السلطان أو الأمير. وكان التنوع الطائفي والانقسام إلى اتجاهي الشيعة والخلافة الرئيسيين قد ساهم إلى حدٍّ ما في استقلال بعض القواعد والأصول الثقافية والعلمية ومحافظتها على أصالتها في بعض مناطق الولايات والسلطنات.

وتلت طبقة الحكّام من حيث الأهمية، طبقة رجال الدين ذات الشأن المميز بالنفوذ الواسع جداً والحظوة العظمى في بلاط الحاكم والسلطان، وتتفوق بهذا الشأن على أي جهة أو فئة إدارية واجتماعية أخرى، ولها امتدادها الكبير في الوسط الاجتماعي لما كان لها من تواصل مباشر واحتكاك يومي مع قضايا المجتمع عبر عدد كبير جداً من المناصب والمراكز والرتب والفروع الرسمية والممثليات، من نحو: منصب القضاء والأوقاف وإدارة المساجد والجوامع وتوابعها فضلا عن إشرافها على سير المؤسسة التعليمية الدينية ومهامها ووظائفها، وكذلك ضبطها للتوجيه والإرشاد وتنظيم حركة الفكر والثقافة الدينية والاجتماعية بين عامة الناس.

انحرافات طبقة رجال الدين
وأسرفت الدول المتعاقبة على الحكم في جعل طبقة رجال الدين في هيئة ملكية سلطانية أميرية مطلقة الصلاحيات، بما فيها صلاحية صوْغ أذهان الناس بما يُعزّز من الولاء للحاكم السلطان أولاً، والولاء للحكم والسلطنة باعتبارها ملكا سلطانيا قيصريا موروثاً عن سلسلة الخلفاء الممتدة إلى عهد ما بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثانيا، فكانت صناعة الولاء المطلق لإعلان معاوية بن أبي سفيان بولاية العهد لابنه يزيد واحدة من النماذج المثلى عند كثير من رموز طبقة العلماء هذه. وبرغم الانتشار الكبير لهذه الطبقة وسيادتها بين الولايات والأقاليم، إلا أنها لم تكن تحظى بالمكانة المؤثرة في صوْغ القرار السياسي أو ضبط قوانين إدارة الشؤون العامة إلا حين تُقدّر رغبة الحاكم أو السلطان مصلحة في ذلك، خصوصاً في مراحل التوسّع الحربي والضبط الأمني الداخلي. وقد تجلى هذا الأمر بوضوح في عهد السلطنة العثمانية.

وتشير الوقائع التاريخية إلى أن رجال الدين (حفّاظ النص) في الفكر الإسلامي لم يمثلوا جهة طبقية حادة خاضعة لهيمنة السلطة السياسية إلا بين الدواوين الرسمية. والمرجّح أن مثل هذه الطبقية نشأت بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله). واستمرّت الحال على هذا المنوال حتى تضافرت أهداف النظام السياسي مع طبقة من الرواة في وقت اتسعت حاجات الناس الاجتماعية والاقتصادية وتطورت فكرة المركزية الإدارية، الأمر الذي عزّز من نصيب طبقة رجال الدين ورفع من شأنها ودرجة أهميتها في المسار الخاطئ حتى وصول هذه المسيرة إلى عهد السلطنة العثمانية وتمثلها في سدة الخلافة في وقتٍ كانت السلطنة ذاتها متورطة في تعقيدات سياسية واقتصادية وعسكرية صاغت ذهنية السلطان، فخلقت منها سلطة نظام طوارئ عسكري، فكان نصيب قوى التأثير الاجتماعي من آثار طبقة رجال الدين بيئة خاملة ثقافيا وعلميا يتخطفها الفرز الطائفي والعنصري والقبلي وينخر فيها بدنها الانقسام الديني والقومي.

تدشين التعدّدية في التعليم الدّيني
كلّ ذلك عزّز من دور رجال الدين بوصفها طبقة أو فئة مصالح يستند إليها السلطان أو الحاكم لتحقيق التأثير الاجتماعي المناسب والمنسجم مع ذهنية وتطلعات سلطة السلطنة والولاية أو الإقليم. وتبعاً لذلك أخضعت هذه الطبقة لقواعد الضبط الرسمي، ونُصّب رجالها الأوائل الموالين وفق رتب ومعايير رسمية خاصة بعيدة عن المعايير العلمية أو الرتب الفقهية والثقافية العادلة. وأتى هذا النمط من التنصيب في تسلسل إداري موجّه بدقة عالية مقتبسة عن سيرة السياسة المختلقة التي انتهجها بعض الخلفاء، والموصوفة بالدهاء الممزوج بمرونة اجتماعية وتيسير فقهي، وشرعت الأبواب لـ (حرّاس شرع الله تعالى) على الطريقة الرومانية، حيث كان بعض الخلفاء والسلاطين يقرّبون طبقة حفاظ القرآن والسنة إلى دواوينهم ويغدقون عليهم العطاء حتى جعلوا من اختلاق الروايات والتلاعب بدلالاتها وسندها صنعة ارتزاق مهّدت بدورها الطريق لاعتلاء هذه الطبقة مرتبة كبرى عظيمة الأثر في نفوس الناس، ما أدى إلى انقسام المسلمين بعد ذلك إلى فرق دينية متباينة العقائد والفكر والثقافة، واضطرار كلّ فرقة من هذه الفرق إلى الدفاع عن مذهبها العقدي والفقهي تحت مظلة السلطان والخليفة، وكان منهج القياس في مصادر التشريع اللاعب الأكبر في تبلور العصبية والطائفية ونجاحها في وضع الحديث واختلاقه. فكان ذلك إيذانا بتدشين أول تعددية مؤسسية في التعليم الديني وفي مناهج الدراسات الدينية وتعزيز ظاهرة الرتب بين رجال الدين أنفسهم بلا معايير علمية حقيقية.

قوى الشرطة والحرفيين
واحتلت قوى الشرطة والجيش المنظم الدرجة الثالثة في التسلسل الوظيفي، وهي قوى أفرزتها ووسّعت من مهامها الرؤية الخاطئة لفكرة الفتوحات التي سُنّت بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وعزّزت من مكانتها في الوسط الاجتماعي في العصر الحديث طبيعة النظام السياسي ذي العقلية الحربية فضلا عن نزاع النفوذ الطائفي والطبقي والقومي والعنصري الذي قاده بعض المذاهب الدينية ضد فرق أخرى. واستنزفت هذه الطبقة قوى المجتمع والجزء الأعظم من الجهود والطاقات طوال فترة مراحل العصبيات والقوميات المتعاقبة، وكان لذلك بالغ الأثر في الاضطراب الاقتصادي وتعاظم الاستقطاب والجذب الحربي لفئات اجتماعية كبيرة توافدت للانضمام لقوى الشرطة والجيش لتأمين مصدر رزق، وتفضيل الانتماء لها والاستجابة للدور التحريضي الذي لعبته طبقة رجال الدين وتشجيعهم على الالتحاق بهذه القوى لكونها ممثلا عن وظيفة الجهاد العسكري الديني.

إن التقدم العلمي والحضاري المتميّز بين المسلمين في مراحل متقدّمة جاء نتيجة الاستقرار الاجتماعي النسبي في بعض مناطق ولايات وأقاليم الدولة وفي بعض مراحل ضعف السلطة السياسية. ولو قدر للعالم الإسلامي أن يستقر ليوظف كل الطاقات في البناء الحضاري، لكان العطاء الحضاري أوسع وأكبر مما عرفته المباحث التاريخية. ويقدّر بعض المفكرين المعاصرين والمهتمين بالشأن التاريخي أن الأمة الإسلامية لم تتخلف، ولكن الآخرين تقدّموا عليها مدة زمنية قُدّرت بستة قرون من الزمن، ويرجع البعض الآخر من المفكرين سبب الجمود هذا إلى عهد السلطنة العثمانية على وجه أخص باعتبارها خلاصة معاصرة لسنة الانقلاب على الأعقاب التي برزت معالمها مع أولى لحظات الإعلان عن رحيل النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى.

وجاءت فئة الحرفيين والتجار في مرتبة رابعة من حيث الأهمية، إضافة إلى بقية أصحاب الصناعات والمهن الأخرى. وقد شهدت هذه الطبقة تطورا نسبيا من حيث وسائلها وموادها تبعا للتطور العلمي والثقافي النسبي، ولكن أثرها في توجيه مسار الأحداث السياسية ومخالطة التطور والنمو الحضاري كان محدوداً جداً.

واختلفت المراتب والتقسيمات الطبقية هذه أيضا تبعا للميول الفرقية أو المذهبية للنظام السياسي في الدولة الإسلامية. فإلى جانب المرتبة الثانية التي حظي بها علماء وفقهاء ورواة البلاط في الدولة، نحّي فقهاء فرق واتجاهات إسلامية أخرى عن شغر أي مرتبة وظيفية دينية رسمية أو خاصة، فشُرّدوا وقتّلوا وسجنوا حتى ضاقت بهم الأرض بما رحبت. وحدث هذا في الضد من فقهاء اتجاه التشيع وطلاب مدارسه الدينية بشكل متطرف عنيف جدا. في مثل هذه الظروف المعقدة طبقياً واجتماعياً وطائفياً نشأت المؤسسة التعليمية الدينية الرسمية وغير الرسمية المستقلة وتطورت في أشكالها البسيطة. فما كان منها تابعا لعلماء البلاط - الطبقة الثانية من حيث الأهمية والتأثير - فقد صبغت بصبغة النظام السياسي في مضامين ومحتوى مناهجها وعلومها، وسايرت السلطة على نمطها الطائفي الحربي وتخلفت بتخلفها، وأيدتها في حروبها الخارجية والداخلية وزجت بأكثرية الناس في أتون تلك الحروب وأصدرت في ذلك فتاواها في إطار مخطط بعيد المدى لدعم الحاكم السلطان ولي الأمر. كلّ ذلك انعكس سلبا على مستوى العطاء العلمي للمؤسسة التعليمية الدينية وساهم في جمودها على منهجها الشكلي القديم الجامد برغم الوفرة المالية التي صبّت عليها صبّاً في بعض المراحل التاريخية.

وشهدت البلاد بعض المظاهر في تقدم بعض العلوم انطلاقا من المدارس والمعاهد الدينية، لكن ذلك كان استجابة فورية لغرض كان الحاكم أو السلطان يضمره في نفسه، كما هي الحال في مسألة إدخال الفلسفة اليونانية والتصوف عنوة في مناهج الدراسات الدينية على عهد الدولة الأموية تحت إشراف وتوجيه مباشر من قبل خالد بن يزيد، والى ذلك وجّهت الدولة العباسية أيضاً دعمها المباشر لتعزيز دور تلك الفلسفات والتصوف في المجتمع بشكل خاص على عهد الرشيد والمأمون.

عصبيّة النشأة العلمية
استمرت الثقافة إلى جانب حركة التعليم في الانتشار والتوسع بشكل مصلحي موجه بالرغم من الأثر السلبي الذي تركه نزاع الخلافة وما أعقب ذلك من حروب داخلية وخارجية بين الدولتين، فالأمويون مالوا بقوة إلى العصبية العربية ولم يولوا أي رعاية خاصة لشعوب الدول المفتوحة، وأطلقوا على غير العرب لفظ (الموالي) وجعلوهم رهن درجة سفلية. بينما كانت الدولة العباسية تمثل دولة الموالي. وكانت الثقافة وعلومها فضلا عن حركة التعليم قد ازدهرت في بعض بلاد الترجمة كبلاد البحر الأبيض المتوسط وبلاد فارس، ولم يكن للجزيرة العربية من نصيب إلا في منطقة حران. وساهم في الازدهار العلمي طبيعة البلاد المفتوحة وخبراتها الحضارية المندثرة إلى جانب حال التعويض التي ظهرت باعتبارها أثرا اجتماعيا ودافعا كبيرا نحو تلقي العلم وتبني أسس التعليم ومناهجه ودمجها بالموروث العلمي. ولم يكن لانتشار التعليم والثقافة من نصيب وافر على عهد الدولة الأموية إلا عندما تسلّم خالد بن يزيد الحكم في سلطةٍ ضعيفة فرضت طبيعتها على الأحداث بعد قتل يزيد للأمام الحسين (عليه السلام)، بينما ازدهر التعليم ومؤسساته في الدولة العباسية لما كان للموالي من دور تعليمي ديني في إطار تعدد ثقافي وعلمي خليط جمع بين النتاج العلمي المحلي ونتاج الحضارات الأخرى كاليونانية الفارسية والهندية، حيث طوروها. وقد لاحظ ابن خلدون ذلك، فذكر في مقدمته فصلا بعنوان ''أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم''.1

إن العصبية والخصومات بين الدولتين تقدّمت على فكر التنمية العلمية، ولعبتا دورا كبيرا في انفصام وحدة المسلمين، وخلقتا بيئات فكرية وعلمية وثقافية مختلفة ومتباينة ساهمت بدورها أيضا في ظهور ونمو الفرق والعقائد المتباينة. إلا أن ما يوجب الإشارة إليه هنا أن إرث وأصول العلم والثقافة ظلت هي نفسها المتداولة عند بعض صحابة الجيل الإسلامي الأول بكل حسناتها وسيئاتها، حقائقها ومختلقاتها، وظل المجتمع بثقافته المضطربة خاضعا للتقسيم المجتمعي المضطرب في هاتين الدولتين المتصارعتين. وظلت طبقة رجال الدين تمارس دورها ونفوذها في الدرجة الثانية بعد السلطان أو الحاكم بلا انحدار أو تحوّل طبقي إلى جانب فئات أخرى من علماء الدين ظلت على حال من الانعزال التام عن مجتمعاتها، وكان الفاصل بين الفئتين من علماء الدين فاصلا طائفيا أو مصلحيا. وهنا ظهر التمايز بين الثقافة والعلوم في مناهج التعليم على عهد هاتين الدولتين وما بعدهما. فالثقافة هي الطابع العام الذي ميّز الشعوب الإسلامية عن بعضها، وقد أقرّ الإسلام هذا الاختلاف، لكنه هذب الثقافات المختلفة وصنع ثقافة جديدة تجتمع فيها التقاليد والأعراف المختلفة والمتنوعة في سرعة بطيئة، وشرط عدم تعارضها مع العقيدة ومصادر الشريعة، ما نتج عن ذلك من توسع كبير في الثقافة الإسلامية، ولكن المؤسف حقا أن السلطة غير الشرعية استوعبت كلّ التنوع في الأعراق والأجناس والأقوام تحت هيمنة غير مستقرة ومتضاربة الأهواء والميول.

نمو العلوم ومناهج الدّراسات الدّينية
وأما العلوم وتطور مناهجها التعليمية إلى المستوى الحضاري المعروف، فطبيعتها أنها نموذج تعاوني إنساني شاركت كلّ الحضارات في بلورته وصناعته حتى حين موعد الاقتباس والتبادل العلمي، فلا علاقة لها بقيود الجنس أو القومية أو العرق، وأن نموها بين ''العجم'' - بحسب تصور وإذعان ابن خلدون- لا يعني أن ذلك جاء نتيجة العصبية السائدة بين الأمويين والعباسيين وردود الفعل التعويضية عند الموالي للحفاظ على مجدهم وعرقهم وعصبيتهم. وساهم في نمو العلوم ومناهج الدراسات الدينية، ذلك الحشد الكبير للأفكار الذي دعا إلى تعظيم العلم وتمجيده، خصوصا في الأقاليم التي عاشت على مجد حضارات سابقة. وقد سجّل في قضية الفلسفة في أوروبا - مثلا - أنها جمُدت لقرون عديدة بسبب مكافحة الدين المسيحي لها ولاعتقاد الدين المبرم بأن الفلسفة هي نتاج وثني إغريقي محرم، بينما جاء الفكر الإسلامي بمناهج تعليم ديني عبّأ الطاقات العقلية والوجدانية في سبيل إحياء العلوم من بعد تشذيبها وتهذيبها وفق تعاليم العقيدة والشريعة، برغم التأثيرات الجانبية والخطيرة التي تركتها هذه العلوم وتسببها في انتكاسة الأصول العقائدية عند بعض الفرق، وبرغم التأثيرات الواضحة للفلسفة على علم الكلام الإسلامي من حيث المنهج والألفاظ العلمية المتداولة في هذا العلم.

وإذا ما رجعنا إلى علماء المسلمين في هذه المرحلة العلمية التاريخية، نجدهم ممن تخرج على التعليم الديني وبساطة منهجه ووسائله، وممن أخذ قسطا من آثار علوم الحضارات السابقة، فما من عالم في شأن طبي أو فلكي أو هندسي أو غيره في المجال الرياضي والإنساني والطبيعي إلا وكان من تلامذة مناهج الدراسات الدينية التي هيأت له الأرضية، فنشأ بعد ذلك مستقلا حرا مبادرا خلاقا في الإرث والتراث العلمي الذي نشأ عليه، وربما كان على العكس من ذلك، عالما كبيرا مسجلا في قائمة كبار ديوان حاكم لإحدى الدولتين الأموية أو العباسية، فكان عالما متجردا عن القيم العلمية التي نشأ عليها في الشأن التعليمي الديني ومناقضا بعلمه الجديد المكتسب ونظرياته الملتقطة في مجال اختصاصه لمحيطه الاجتماعي العلمي، كأن يكون روائيا أو فيلسوفا شاذا لا يؤمن بمدرسته ولا تطمع في علمه مدرسته وطلابها، فيبدع في اختلاق الرواية أو في علم فلسفة اليونان لا في علوم دينه الأصيلة، أو يكون فيلسوفا متجردا عن مجتمعه وقيمه، متبحرا في نظريات (العشق الإلهي) مثلا فيجمع في لحظة حاسة بين الفلسفة والتصوف حتى ينتج ديانة جديدة كديانة (وحدة الوجود والموجود) على خلاف علوم وفقه وعقائد مدرسته الدينية
طباعة : نشر:
 
يرجى كتابة التعليق هنا
الاسم
المدينة
التعليق
من
رمز التأكيد Security Image
 
جميع الحقوق محفوظة لشبكة النعيم الثقافية © 2003 - 2024م