عيشة إبراهيم دي مِش «عيشة».. أكبر بكثير
الوقت - حسين المحروس:
نوفيلا: ما رأيك أن نلتقي الخميس ظهراً بعد الغداء مباشرة، لن آخذ من وقتكِ الكثير. - لا.. أنا ما عندي مانع في أيّ وقت تختاره أنت. كان اليوم الأخير لورشة العمل في فندق «سفوتيل القاهرة» قرب ميدان الرماية بالهرم. هي في الغالب لحظات قلق ووداع. أكدّت الموعد أكثر من مرّة فوجدتها ناسية له. ما الذي يجعلها تنسى؟ اخترت زاوية بعيدة عن الحيوية في بهو الفندق. فلما استقر بنا المكان قالت عيشة: - أنا الآن مصابة في الكبد وهو يؤلمني كثيراً، هنا.. أسفل قليلا.. لكن الذي يؤلمني أكثر خوفي من ألاّ يرضى الأطباء القيام بجراحة لي أخشى أن يتعقد الأمر كما يحدث في بلادي. لكن هل أنتَ من مصر؟ نوفيلا: لا.. أنا من البحرين. قبل أيام فقط زارت «عيشة» مستشفى تخصصياً في عين شمس فتمّ طردها بأدب، وبحجة طبية أيضا. يقول المرافق لها شريف عبدالعزيز «طردوها وكانت تضحك». مرّ الآن على إصابتها بالأيدز عشر سنوات.
رقصة العروس في مدينة «المناقل» بمحافظة الجزيرة، هناك بين النيل الأبيض والنيل الأزرق في الشرق المتوسط من السودان ولدت عيشة في عائلة يسيرة، مترابطة، صلة الرحم بينها قوية. أبوها الفلاح إبراهيم محمد أخوانها تسعة وأخواتها ثلاث، وعيشة هي المولود ما قبل الأخير في العائلة. دخلت عيشة المدرسة الابتدائية حتى الصف الرابع الابتدائي فقط. وعندما صار عمرها ثلاث عشرة سنة طرق رجل باب بيت أبيها خاطباً، بعد أن رآها مرّة واحدة بالصدفة. تقول عيشة مبتسمة 'عندنا في الجزيرة على المرأة أن تقبل مَنْ يخطبها في المرّة الأولى، ولا يُؤخذ رأيها فيه: توافق، أو لا توافق لا اعتبار لذلك في العائلة. المهم في كل ذلك أن يكون الزوج جيداً، ولا شيء أكثر'. يوم الزفاف أهم يوم عند المرأة في طقوس الزواج كلّها. طقوس وعادات الزواج كثيرة منها ما يعرف باسم 'الجرتق' وهو أن يقوم العريسان ببخ اللبن في وجه بعضهما البعض تفاؤلاً بأن حياتهما ستكون نقية خالية من المشاكل. في المساء تلبس الثوب الأبيض والطرحة البيضاء، بعدها تلبس العروس الثوب البلدي، الشبشب في القدمين، ودقلة من الذهب تتدلى من فوق الرأس على الجبين. يخرج الجميع إلى الساحل لتؤدي العروس رقصة منفردة قد لا تتكرر في حياتها. رقصة تدربت عليها بمساعدة صديقاتها قبل مدّة كافية. تقول عيشة -بعد أن ضحكت كثيراً- «نعم لقد فعلت ذلك. لقد رقصت على الساحل أمام الجميع». هناك طقس آخر يسمونه «الرحط» وهو أن ينزع المعرس سبع شعرات من مجموعة شعرات تمّ تثبيتها في جسد العروس، ويوزعه مع الحلوى على الفتيات العازبات تفاؤلا باستمرار حياة العريسين، وبزواج الفتيات في المستقبل. ويجرى طقوس الرحط في صباح العرس. بعد انتهاء الطقوس الكثيرة يخرج العريسان لتمضية شهر العسل، لكن «عيشة» لم تفعل ذلك، 'لأنّي بصراحة كنت «زولة» صغيرة وخائفة. طلبت منه أن أسكن مع أمي فلم يمانع. كان «زول» يتفهم مابي'.
ربّة البيتين تزوجت «عيشة» من 'زول' يعمل سائقاً، يكبرها بقدر عمرها ساعة الزواج. انتقلت إلى بيتها. صارت ربّة بيت تجيد فعل كل شيء تفعله أمّها. أنجبت مولودها الأوّل أبو اليسر في سنتها الأولى. وفي السنة الثانية أنجبت محمد ثمّ طفلتها يسرية. بعد مجيء «يسرية» بسبعة أشهر رحل الزوج فترملت عيشة في سنّ صغيرة. هناك على المرأة الأرملة ألاّ تخرج من بيتها مدّة -عدة الوفاة- وهي أربعة أشهر، وألاّ تتحدث مع رجل. بعد انقضاء مدّة «الحبس»- هكذا تسميه عيشة- تحدث إليها أخوتها، اقترحوا عليها الزواج مرّة ثانية «أنت صغيرة وأطفالك صغار يحتاجون إلى أب». ظلت ترفض مدّة عام كامل حتى تقدّم لها «زول» غني واشترط أن تترك أطفالها مع أمها لكنها رفضت. تقدّم لها صديق زوجها الراحل. قال لها «سأعتني بأطفال صديقي». جرى الزواج من غير المراسيم والطقوس التقليدية. تقول عيشة «كنت للتو خرجت من الحبس». سكنت العائلة مع الزوج الجديد في العاصمة «الخرطوم» مدّة من الزمن. بعد عام من الزواج أنجبت «عيشة» طفلها الرابع، الأول من الزوج الجديد. سموه «أحمد» لتظل ذكرى زوجها الأول، وصديق زوجها الثاني. تروي عيشة «صارت حياتي هادئة مستقرة جميلة». عادت العائلة للعيش في «المناقل» في بيت جوار والدة عيشة، التي أنجبت طفلها الخامس «عزاز». وما أن كبرت الطفلة الجديدة حتى أنجبت طفلها السادس «إحسان» وهي أنثى أيضا؛ ثمّ «مهند». تقول عيشة «لم يكن لدي عمل غير الإنجاب وتربية الأطفال وتعليمهم، ومتابعتهم في المدارس والروضات». صارت عيشة ربّة البيتين بامتياز.
تعب قليل شعرت عيشة بألم في خاصرتها، لم تكن تشكو قبله من علّة. فلما زاد الألم زارت مستشفى الجزيزة فأخبروها عن حصاة في الكبد وتحتاج لعملية جراحية. ولأنّ نسبة الدم في جسدها لا تساعد على العملية قررت الدكتورة نقل زجاجتي دم، وإجراء العملية بعد شهر. نست عيشة موعدها، تدوات بما لديها من أدوية شعبية ولم تعد تشعر بألم.
رقصة الفيروس فتور في الجسد ورغبة كثيرة في النوم، حمى، تعرّق في الليل. صارت عيشة امرأة من كسل. عرضت نفسها على أطباء في الخرطوم، شكوا في «المرارة». تروي عيشة «بعد إجراء التحاليل خبروني أني بخير. قلت: خلاص أنا كويسة. بعد أيام عدت للدكتور قلت له: لا.. أنا مش كويسة اعمل لي عملية فحولني إلى أكبر جرّاح في مستشفى «ابن سينا» هناك تبين أنه لا شيء عندي في الكبد، وأنّه مجرد التهاب عادي. قال لي: مبروك لا تحتاجين إلى عملية، فسرت إلى البيت فرحة». تطورت الحالة. أصيبت بأعراض جديدة منها إسهال دام ثلاثة أشهر فقدت فيه عيشة الكثير من جسدها. عادت للطبيب الكبير قالت له «حمى، تعرق، كسل، تعب، قلة نوم، والآن إسهال مستمر كيف يعني» أرسلها لمختبر المستشفى فأُخذ منها ثلاث جرعات من الدم. تقول عيشة «وضعوا النتيجة في مغلف وأغلقوه بالشمع الأحمر وسلموه لزوجي قالوا له: راجع الدكتور مرّة أخرى». قرأ الدكتور النتيجة قال «لا تأكل معها، ولا تشرب من شرابها، ولا تنام معها، ولا تمارس معها الجنس حتى تذهب الآن إلى الطبيب المختص». كانت عيشة تنتظر زوجها في الخارج. سألته عن النتيجة فقال «يقول عندك مرض مثل السكري وضغط الدم يمكن علاجه» فأقسمت بأنها لن تشرب الدواء ولن تتعالج حتى تعرف ما بها. دخلا على الطبيب المختص فكتب علاجاً مكلفاً ثمّ قال: «لن أعالجك، لن تشفي من هذا المرض، وهذا العلاج أصلا غير نافع، وسوف تموتين قريباً». - «ليه تكلمني بهذه اللهجة يا دكتور». - «أنت مش عارفة مرضك». - «لو عارفة أصلا ما سرت إليك». - «أنت عندك إيدز». تقول عيشة «لفت بي الدنيا، وبكيت من أعلى رأسي كثيرا. قلت له: لكن من أين جاء لي المرض دكتور». - «اسألي نفسك أنت جبيته منين». - 'أنا.. تزوجت وعمري ثلاث عشرة سنة وولدي الكبير الآن عمره سبع عشرة سنة'. التفت الدكتور إلى الزوج فسأله عن عمله فقال «أعمل سائقا» فقال الدكتور: «خلاص أنت منْ نقل لها المرض». تروي عيشة «التفت إلى زوجي وبدأت أوبخه: أنت زول ماعندك سلوك جبت المرض لزوجتك، إنت خلاص انتهيت من أسرتك، قتلتها وقتلت أولادك. في البيت قامت أمي تحضني كثيراً وتطلب مني الصبر. طلبت من زوجي الابتعاد نهائيا عن الأسرة فراح يعمل تحاليل لنفسه. الدكتور أكد له مرتين أنه غير مصاب فاعتذرت منه فعاد إلى جواري يساندني في محنتي الجديدة. فحصت كل أطفالي فكانوا سليمين والحمد الله». انعزلتْ عيشة في عيشها عن أسرتها في أمور كثيرة. صارت حذرة وطلبت منهم الحذر أيضا. عرف الجميع أنّها أصيبت من نقل الدم الملوث. قال لها زوجها: - «والله أنا لم أشكّ فيكِ قط حتى بعد ظهور النتيجة ووصم الدكتور لك ولي.. فكرت وجاء في بالي الدم المنقول إليك».
المرض «الوِحِش» 90% من المصابين بمرض الأيدز لا يعلمون أنّهم مصابون. 10% يعرفون. الرقم المعلن في البحرين هو وجود 279 حالة إصابة بالمرض أكثرها أتى من مدمني المخدرات. لا يوجد مركز للفحص الطوعي لمرض الأيدز في البحرين ودول مجلس التعاون وفي كافة الدول العربية. ولا يوجد قانون حول هذا المرض عدا جيبوتي. هناك حالة أيدز جديدة واحدة كل عشر دقائق في الوطن العربي. عدد الذين يتعايشون مع الأيدز - أي يأخذون أدويتهم بانتظام ويمارسون حياتهم بشكل طبيعي- 270 ألف متعايش في الوطن العربي. هذه الإحصائية منذ العام .2006 عندما اكتشف المرض في العام 1981 قال المتدينون: إنّه غضب السماء. يقول الشيخ أحمد تركي إمام وخطيب مسجد النور بالعباسية (مصر) الذي شارك في ورشة المبدعين والمدونيين والإعلاميين للتجاوب مع مرض الإيدز في العالم العربي مطلع الشهر الجاري في القاهرة «لقد ارتكب رجال الدين خطأ كبيراً عندما قالوا إن مرض الأيدز غضب من السماء، وإنّه لا يحدث إلا في العلاقات غير الشرعية، وعندما ساهموا أيضاً في وصم المرضى به«. لكن مستشارة سياسات الأيدز ببرنامج الأمم المتحدة الإنمائي الدكتورة خديجة معلى أشارت في إحدى مداخلاتها في هذه الورشة إلى أن أكثر الجهات تعاوناً وحيوية مع برامج الأمم المتحدة حول الإيدز هم القادة الدينيون: مسلمون، ومسيحيون.
السستر مركوني بدأت «عيشة» رحلة التعايش مع الأيدز قبل عشر سنوات. كان الشخص المهم في هذا الأمر بعد زوجها هي السودانية السستر نفيسة مركوني. تقول عيشة «لقد أخرجتني من الحالة النفسية التي كنت فيها. لم يفعل أحد ذلك غيرها. لقد قامت بتعريفي بمجموعة من المتعايشين مع المرض. أكدت لي: يمكنك أن تعيشي حياة طبيعية. حضرتُ معها محاضرات وفعاليات كثيرة لها علاقة بالمرض. سمعت البعض يقول «احرقوهم» أو «اعدموهم» وجدت نفسي تدافع عن نفسي وتجادل وتحاول أن تعيش لا أن تنزوي وتكتئب وتموت. صرتُ أتحدث عن تجربتي في كل مكان، وفي دول مختلفة».
أتعايش ولا أهتمّ لكن سيرة التعايش هذه لم تخلُ من محنٍ وعقبات عنيفة. عادت عيشة وأطفالها مرّة إلى بيتها فوجدت النار تشتعل في أثاث بيتها. كانت الرسالة واضحة «غادري هذا المكان. سوف نحرقك أنت أيضا». خرجت عيشة تبحث عن ملاذٍ آمن فلم تجد غير مدرسة في الخرطوم يعمل ابن خالتها فيها. لكن الأخير سرعان ما تمّ فصله وطرد عيشة التي راحت تقابل وزير التربية فأعاد ابن خالتها لوظيفته. أولياء الأمور احتجوا على وجود أطفالها جوار أطفالهم فتمّ طردهم أيضا. تقول عيشة «رحلت بهم إلى مدينة 'أم درمان'، لكن المحن لم تنتهِ فترك ولدي الكبير 'أبو اليسر' المدرسة. أولادي الصغار يرسبون كل عام بسبب ما يلاقونه من محن. مَنْ ينجح في وضع كهذا. الآن طفلاي 'إعزاز وأحمد' يجادلان ويشاكسان كلّ مَنْ يحاول النيل من أمهما، وينجحان في دراستهما أيضا، ويتقدمان».
مجيء الرحمة ظلت عيشة تتعايش مع مرضها وتمارس حياة طبيعية. وفي يوم تعكر مزاج العائلة. تروي عيشة «خلال الممارسة الجنسية تمزّق الواقي الذكري وحدث حمل». إنّ نسبة انتقال مرض الأيدز إلى الجنين لا تتعدى 40% وليس 100% كما هو شائع؛ لذا لم تجهض الجنين واحتفظت به حتى ولدت فتاة سليمة معافاة سمتها «رحمة». تضيف عيشة «زوجي أيضاً لم يصب من ذلك التمزق. صرنا نحتاط أكثر لكن لا نرجع إلى الوراء. سأظل أعيش وأتحدث عن تجربتي في أي مكان في العالم يطلبون مني ذلك». http://www.alwaqt.com/art.php?aid=114418
|