مناوشة لدوائر المنام في حوادث كرزكان
كريم المحروس
14 ابريل2008م
تبادل أطراف الحديث مع (شِيّاب) حوادث الخمسينات ينبه في الذهن الكثير من مفاهيم التروّي والحيطة والحذر، وينمي في العقل درجات من الحكمة المجردة من مظاهر التعصب .. سألته عن رأيه في آخر الحوادث .. حوادث كرزكان، سترة، السنابس، جدحفص .. تعذر عليه التفصيل في الوقائع حتى ظننت أن هذا (الشايب) غير مضطلع بأحوال مناطق البحرين المشتعلة.. وبلا مقدمات، أخذني هذا (الشايب) إلى فضاء الحكمة وكأنه أراد بذلك تجريد حديثه معي من التفاصيل التي تبعث على المرارة والأسى، وقال:
أسمع الطرفة هذه (زين) ، وإذا في (أدونك قطنه شيلهه):
الإبن يعمل مخبرا سريا منذ السبعينات، بينما اتخذ والده موقف المعارضة الإيجابية سبيلا منذ الخمسينات فنال به منصبا رفيعا مكافأة له على إيجابيته!.. وشاءت الأقدار آن يتقابل الأب وابنه وجها لوجه في مجلس إحياء ذكرى رحيل مناضل وطني انتهى به الحال قبل وفاته إلي شغر وظيفة دبلوماسية رُحِّل بها إلى دولة عربية.
أُخْتُتِم مجلس الذكرى بالفاتحة، ثم دارت فناجين القهوة بين المعزين الذين استهوى بعضهم حوار جانبي هادئ حول الوطنية ومفاهيمها ومعانيها، وفعلها الضروري في صناعة التاريخ وتنمية قيم الحاضر، وما للمرحوم من دور بارز في تمثيلها!.. وبعد انتهاء دورة شرب القهوة الأولى، اختلى بعض المعزين بأنفسهم في إحدى زوايا المجلس فتضاربوا بالآراء والتصورات السياسية والأمنية، وضاربوا في تحليل وقائع وحوادث مناطق السنابس، جدحفص، كرزكان، سترة، والخلفيات السياسية والتطورات الأمنية وانعكاساتهما المستقبلية على جزيرتنا، حتى سيئ بهم مقام الخلاف وضاق ذرعا.
في أواخر لحظات المجلس.. وفي تلك الزاوية منه ، انحصر الخلاف بين مقامي الأب المناضل القديم والإبن المخبر الجديد اللذين استدركا تلك اللحظات الأخيرة من خلال عرض مجمل لمعاني الوطنية وتجلياتها في ذاتيهما، ولم يتوان أحدهما عن عرض وجوه القصور في الآخر إلى حد الوصف بالجهل!.
الإبن لديه قناعة راسخة بأن الانتماء لجهاز المخابرات هو عض على قيمة وطنية بالنواجذ، وأن المعارضين في اعتقاده لا يخرجون على كونهم قتلة ومخربين غير مدركين لمعانى الوطنية، ولا عهد ولا شعور لهم بها، ويستحقون انزال كل الوان العقاب الفردي والجماعي عليهم وإن تُوسل في ذلك بالغدر والحيلة على رزية كرزية ابن عباس في يوم الخميس التاريخي.
وفي المقابل، يجد الأب المعارض الإيجابي في ذاته قيمة وطنية كبرى مماثلة لقيمة الدبلوماسي المرحوم حيث قدم التضحيات في ريعان شبابه ولكنه تنزل سياسيا خضوعا عند ضغط الظروف المعقدة في تلك المرحلة النضالية المنصرمة، ومحاكاةً للباب الوطنية لا قشورها!. وإما جهاز المخابرات ففي اعتقاده أنه لا يعدو أن يكون جهازا مستخفا بالوطنية والمواطن معا، وتحكمه عقول طائفية مستبدة، مستغلة لأدوات صبيانية مراهقة، تعشق العنف حين يمارس ضد المواطنين وتظن فيه فخرها وعز وطنها!.
وبينما الأب والإبن يبرقان ويرعدان في مناظرتهما، ويمطران بين الحضور من البصاق رذاذا؛ تدخل بينهما أحد المعزين قاصدا فك الصخب والنزاع تعظيما لحرمة مجلس الذكرى والفاتحة، ثم استتبع وساطته هذه بنصيحة قديمة مجربة عند أحد حكماء زنجبار وجهها للوالد وولده، حين قال:
إخواني هدؤوا اشوي .. حين تتضارب معاني الوطنية بين اثنين قريبين مثلكما، يجمعهما سقف واحد في هذا الوطن، فعليهما آن يفرغا نفسيهما لإيجاد الحل. ففي الحل هذا تكمن قيمة وطنية ضرورية الإيجاد إن استطعتما إيجادها. ولأجل ذلك، عليكما الذهاب ليلا إلي آخر نقطة في البلاد، وليبادر كبيركما برسم دائرة ضيقة على الأرض، ثم تستلقيان في داخل محيطها وتناما معا حتى مطلع الفجر. فإن استيقظ أحدكما عند الفجر ووجد نفسه في خارج دائرة المنام هذه، فلا وطنية له ولا وطن والموت أولى به، وأما الآخر فيبقى عين ذات الوطنية وليس تجليا لها فحسب!.
انفض المجلس بعد أن قَبِل الوالد هذه النصيحة على سبيل الهزو والاستخفاف والاستهانة بولده المخبر والتنكيل برأيه.. وفي يوم محدد متفق عليه بينهما، اتخذا من رسم دائرة ضيقة في رأس البر مناما. وعند طلوع الفجر استيقظ الأب من النوم فوجد نفسه وابنه خارج الدائرة!. فما كان منه إلا آن تعجل الى ابنه يوقظه وهو يقول في سخرية: قوم يا ولدي..قوم ..تره المسألة خراب من جدك مو مني ولا منك!! .. أما علمت يا ولدي آن المستشار بلجريف عين قاضيا على قرى البحرين في عام 1928م. وعنه سجل في مذكراته: ".. كأنه أحد عفاريت رسومات آثر ركام (Arthur Rackham)، له يد ترتعش باستمرار، فلا يستطيع الاحتفاظ بفنجان القهوة فيها ولكنه معروف بالحلم والدراية والعلم. وهو في الوقت ذاته رجل مرح ترى السعادة في عينه الباقية. وكثيرا ما زرته في منزله القريب من البحر وشربت معه القهوة، علما بأن الفنجان الذي أشرب منه سوف يكسر في النهاية حتى لا يشرب منه أحد المؤمنين بعدي! . ورغم أنى كافر(في نظره) إلا أن القاضي العجوز كان يستشيرني في أشياء كثيرة، وبالذات في أموره الخاصة، حيث طلب مني آن أكون شاهدا على وصيته"! ..
يا ولدي ، إن جدك يمثل إحدى معاني الوطنية على طريقة القاضي لا غير، طريقة تحمل في أحشائها نقيض ذاتها بلا قيم: كَسّر فجان قهوة الكافر لأنه نَجَس فلا يُقرب، ولكنه جعل من الكافر مستشارا له في شؤونه الشخصية الخاصة وشاهدا على وصيته! .. فالتفاخر بالوطنية بيني وبينك من بعد فضيحة (دائرة المنام) في رأس البر مجروح يا ولدي، إلا أن يكون فخرا منك في حضرتي على المواطنين الآخرين المستضعفين ، أو يكون فخرا مني في حضرتك عليهم..على أن تبقى سيرة جدك محفوظة السر بيننا..فهلا تعادلنا أو تساوينا؟!
الطرفة (زينه)؟!ّ ..هذه طرفة نكررها دائما في مجالسنا .. مجالس (الشياب) ..ونشير إليها بيننا بكلمات رمزية في أغلب الأحيان .. طرفة معبرة جدا ولكنها تلخص النتائج وتوجز الخاتمة ..هي طرفة تسعى من قريب إلى كشف حكاية مشهدكم السياسي يا شباب البحرين..طرفة تعرفكم بالقيم الداخلية التي أسلمت وجهها لموازين الاضطراب والتخبط منذ وقائع انتفاضتكم السابقة إلى حين حوادث كرزكان الأخيرة وما أفضت إليه من تطور لافت لحق بأواخر محطات مشروع الإصلاح المدعى في جزيرتنا.
طرفة إذا ما انتبهت إلى عبرها بتواضع، سترشدك إلى الصورة الأخرى لآخر انتفاضة شعبية في البحرين كانت هيئت للطرفين، السلطة والشعب معا، فرصة تاريخية ذهبية لم تتهيأ لأجيالنا منذ أحداث العشرينات.. فرصة مرت على البحرين مر السحاب .. بلا ريث ولا عجل .. كانت مثقلة بآمال لم يتيقن بوجودها إلا من هم في مثلنا سنا حتى انتظرنا لوحدنا خراجها، لا طعما في مكسب خاص منها، بل لأنها توفرت على خياري الحل الأمثل للسلطة قبل المعارضة: خيار اصلاح القيم والثبات على أحسنها، وخيار إثبات الكفاءة السياسية .. فلا القيم سادت بينهما ولا الكفاءة تحققت في كليهما.. وكل الأسباب ترجع عند المنتهى إلى أنهما، السلطة والمعارضة، كانا يجتنبان فضائح (دوائر المنام) في القيم والوطنية والكفاءة، ويحمل كل واحد منهما في ذاته الاستعداد لجعل الآخر كافر يستحق أن يستشار في القضايا الشخصية الخاصة، وشاهدا على الوصايا قبل الممات، ولكن ليس قبل تكسير فناجين القهوة!.. ذهبت تلك الفرصة إلى غير رجعة، ولن تعوض إلا بدورة سياسية جديدة مكلفة في تضحياتها ومعقدة في قيمها وموازينها السياسية .. وربما لاحت في أفق البحرين طلائعها.. والبقية عليك!!
|