حزبا الإخوان والتحرير طرفان منسيان في تحريم الشعائر
بين عقدي الأربعينات والخمسينات حيث بلغت موجة الإصلاح والتجديد على منهج الإخوان المسلمين وحزب التحرير الإسلامي ذروة مجدهما في بلاد عربية مختلفة في مقابل نشاط سياسي وثقافي بارز تزعمته أنظمة الاتجاه القومي والتبعي العربي- أخذت طلائع فكرة الإنتماء السياسي الشيعي تنهض على هذا المنهج السني وتمتد بين أروقة بعض مدارس الحوزات الدينية في كل من العراق وإيران ، حتى سُجلت أسماء لرموز شيعية لامعة في قائمة حزبي الإخوان والتحرير كانت تعتقد أن التجربة الحركية والفكرية لهذين الحزبين هي منشأ إسلامي خالص وولادة ذاتية أصيلة مجردة عن أي مؤثر فكري أو خلفية علمية أجنبية .. إضافة إلى كونها تجربة يفتقد الشيعة والتشيع لمثلها وحري بهما أن يقتبساها جملة وتفصيلا حتى يصلا إلى مرحلة تفاعلية منتجة على الصعد السياسية!.
وعلى أسس ثابتة من هذا الاعتقاد وجدت هذه الرموز الشيعية نفسها ملزمة باقتباس تجربة الحزبين بمباركة وإشراف ودعم مباشر من بعض زعمائهما، ومن ثم السعي لإسقاط ثمرتها على التيار الشيعي الذي بدا موغلا في جموده الثقافي وتخلفه السياسي في عالم عربي وإسلامي يموج باضطراب شديد اثر نمو الفكرة القومية والتبعية في مقابل توسع الحركة الصهيونية واحتلالها لأراضى فلسطين. فنشأت حركة "إصلاح وتجديد" ثقافي شيعي جديد على منهج الإخوان والتحرير تخللت أنشطتها موجة اقتباس وترجمة وتداول لمؤلفات زعماء الحزبين السنيين في الوسط الديني الشيعي.
استمرت هذه الحال من التقارب والإندماج الفكري والحركي حتى مرحلة تاريخية متقدمة من النضال ظهرت فيها مؤلفات "اخوانية" و"تحريرية" ناقدة لعقائد وشعائر مذهب التشيع لأهل البيت(عليهم السلام)، كان أخطرها مؤلف باسم "كتاب الخلافة" من تأليف تقي الدين النبهاني الفلسطيني المستوطن في الأردن وأحد زعماء حزب التحرير الذي أنكر فيه واقعة غدير خم بلا أي رعاية منه لمشاعر نظرائه من المنتمين الشيعة في حزبه أو لطف بعقائدهم ومصادرهم الدينية، بل أن النبهاني حذرهم إزاء ما شهد من جفوة من بعد ضغوط حوزوية دينية علمية صبت على الشيعة الحزبيين صبا، وأنذرهم بالقول: حزبنا لا يريد ناقدين .. يريد مطيعين!. فكان موقف النبهاني هذا سببا للفراق الحركي بين الحزبين والرموز الدينية الشيعية التي استقلت بعد ذلك بنشاطها الحركي انطلاقا من محيط الحوزات الدينية، وبقي ارتباطها العضوي بالأفكار"التجديدية" والمسالك الحركية على نفس المنهج!.
وكما هي الحال في البحرين حيث يتلقى مجتمعها المؤثرات الفكرية من خارج البلاد بلا حساب وضوابط أو معايير خاصة تحسب للثقافة المحلية إرثها وتراثها وما قدرته من أثر في صياغة الذهنية البحرانية؛ ساد الإيمان بمشروع "إصلاح وتجديد" الشعائر الدينية الشيعية على منهج الحزبين الإخوان والتحرير، وكانت آلاته شخوصا بحرانية من أتباع ومريدي الفكر الحركي لرموز حوزوية شيعية ألفت من قبل الانتماء للحزبين. وأما مُعينها الأول في اجتياح الوسط الشيعي البحراني واختراقه فكانت بيئة اجتماعية متخلفة لها قابلية التفاعل بلا حدود مع أي وافد فكري مادامت رموزه "تجديدية" متصلة بمحيط الحركة العلمية في الحوزات الدينية العراقية أو الإيرانية.
الطريقة البحرانية المميزة في إحياء مناسبة عاشوراء والتي لا مثيل لها في عالمنا الإسلامي ، كانت أول هدف ثقافي ديني في ظرفنا الراهن قصدته فكرة الإخوان والتحرير الشيعية تحت شعار "تجديد الشعائر الحسينية". وفي لقاء خاص حدث في بدايات عقد الخمسينات ، أصغى أحد وجهاء المنامة وكبير رؤساء المآتم إلى نصائح أحد الحزبيين الشيعة الإخوانية دعاه فيها إلى اللعب بدور مشاركة في تجديد الشعائر"المتخلفة". فوجد الوجيه في النصح قمة "التعقل والإعتدال"، فطار في اليوم التالي إلى بلجريف يعرض عليه تلك الدعوة والنصائح "الحضارية" التي لم يلبث بلغريف أن استحسنها وأيدها وأوقف وظائف السلطة الأمنية من أجل إخراجها إلى الواقع العملي وتطبيقها على وجه السرعة .. كيف لا وهي فكرة ونصائح داعمة لهيبة دار المعتمد البريطاني التي كانت تضمر الكثير من المخاوف كلما حلت أيام عاشوراء ومناسباتها المهيبة، وكلما عم الحشد الشيعي الكبير والخطير مناطق البلاد، وكلما ابرز مطلع العام الهجري اجتماع شيعة البحرين على كلمة سواء تضع عنهم أغلال الفرقة والتناوش.
وخلال فترة وجيزة استدعى هذا الوجيه في سرية شديدة رؤساء المآتم الكبرى في العاصمة إلى اجتماع طارئ. وفي مجلسه أطلعهم على الفكرة والنصائح "التجديدية" ولم ينس أن يذكّر بموقف المعتمد البريطاني واصطفافه إلى جانبها وتأييده المطلق لكل خطوة تستهدف إحداث تحول في الشعائر وتقليص وجودها وعددها والحد من توسعها ونمو أبعادها وانعكاساتها على الثقافة البحرانية. فوافق أكثرهم على مضض، على أن يتقدم مرحلة التطبيق تعاقد خطي بين رؤساء المآتم مؤكّد على القبول بالإجماع والشراكة في هذه المهمة الخطرة ولا يستثني أحدا منهم من المسؤولية. فكان لهم ذلك من خلال وثيقة أدرجت توقيعاتهم جميعا.
أفادت الوثيقة بأن مسيرات مواكب العزاء و"طرقها" و"أشكالها" التي تجوب أزقة المنامة في أيام محرم الحرام من كل عام، لا معنى ولا فائدة مرجوة منها، إذ يتخللها الكثير من مظاهر "التشويه" للمذهب فضلا عن كونها مرتعا لأسباب التوتر الأمني والطائفي في البلاد. وأما توصية الوثيقة: فعلى المعزين أن يكتفوا بإحياء هذه المناسبة في المآتم فقط!.
قبل أن تأخذ هذه الوثيقة طريقها إلى التنفيذ .. تسرب خبر الإجتماع الطارئ ومشروع الوثيقة عبر صديق مقرب إلى رمز ديني تميز بشجاعته وجسارته وبنشاطه الثقافي الكبير ودوره المخلص والواعي في الدفاع عن التشيع، والناس من الاجتماع في سبات لا يعلمون شيئا عما يُهيَئ لهم ويعد من خلف الأستار. وفي لحظة خاطفة تفاجأ المجتمعون قبل أن ينفض اجتماعهم باقتحام غاضب لمقر اجتماعهم السري نفذه هذا الرمز الديني المهم. وبعد مداولات حسنة بينه وبينهم حاول من خلالها ثني المجتمعين عن غرضهم المتعلق بمنع ممارسة الشعائر وتسيير مواكب العزاء في أزقة المنامة؛ بالغ في وضعهم أمام مسؤولياتهم الشرعية حين سألهم إن كانوا على علم بفتوى جديدة خصهم بها المرجع الديني أبي الحسن الأصفهاني ومنع بموجبها ممارسة الشعائر والخروج بمسيرات العزاء في البحرين، أم أن فكرة المنع هذه هي خيارات أجنبية وافدة عن بيئة غير شيعية وغير بحرانية ، أم أنها من وحي اجتماعات رؤساء المآتم ولقاءاتهم ومباركة من بلغريف!. فسكتوا ولم يحروا جوابا وكأن على رؤوسهم الطير.
وأخيرا انفض الاجتماع، وجمدت الوثيقة، وأصيب بلغريف بعدها بالإحباط التام ولكنه في جانب آخر أصدر أمرا انتقاميا فرض بموجبه الإقامة الجبرية على هذا الرمز الديني، وأوعز لبعض فداويته بإلقاء القنابل على مركز عمله الذي يؤمه الكثير من مريدي العلم والثقافة.
ومنذ ذلك اليوم وفكر حركة الإخوان وحزب التحرير يجوب بين أذهان الكثير من الرموز الدينية الشيعية البحرانية التي مازالت تسعى جاهدة للنيل من بقية الشعائر الدينية باسم "التجديد" و"المعاصرة" وحفظ التشيع من التقاليد الدينية المشوهة، بعد أن سجلت مساعيها عند عقد الخمسينات أول إخفاق لها أمام مسيرات العزاء وتنوع مظاهر إحياء ذكرى مصاب أهل البيت (عليهم السلام) بالرغم من وقوف بلغريف وسياسة بلاده في الضد من المسيرات الحسينية.
وكان أخطر ما تركه هذا الإخفاق التاريخي من أثر على البيئة الاجتماعية والثقافية، ذاك التطرف السيئ في التعاطي مع قدسية فتاوى الوجوب والاستحباب في شأن الشعائر، حتى انفردت جزيرة البحرين دون سائر بلاد المسلمين بالحرب ضد الوجوب والاستحباب بقصد فرض بعد تحريمي منفرد لا نصيب وافر له من العلوم التفصيلية ذات العلاقة، فكان نصيب الموجبين وأهل الاستحباب التهمة بـ"العناد"، وأما نصيب المحرّمين فصور موهومة من "التجديد الإخواني والتحريري".
الآن يجد أهل البحرين أنفسهم أمام خلاف شديد بدأ يأخذ طريقه للتطور، متخذا منحى النزاع الجماهيري أمام مرأى ومسمع من كل الرموز الدينية ولا من متدخل بينهم لحسم هذا الأمر الذي جرف في طريقة سمعة ومكانة المرجعية الدينية وعلماء الدين عند التشيع. وأما ما خفي من أساليب هذه الحرب ضد بقية الشعائر تحت شعار"التجديد" فيبدو أن ظرف إعلانه لم يحن بعد. وربما كان هناك انتظار آخر لفرصة ظهور بلغريف جديد مشارك في مهمة تجميد دور الإرشاد الديني من خلال منابر ومجالس إحياء المصاب فضلا عن تجميد ممارسات اللطم على الصدور وما أشبه!.
وإذا ما تتبع أحد دراسة مسيرة تضارب تحليل وتحريم الشعائر القائمة، فسيصل في المنتهى إلى كشف آمال كانت مشتركة بين بلغريف والانتماءات الشيعية في حزبي الإخوان والتحرير لم تتحقق، وأما إذا ما أمعنا النظر في أدوات الحرب هذه، فهم جمع من أبناء هذا البلد المنكوب سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، يٌشغلون عن الفكرة في إيجاد العلاج الجذري لمشكلات وطنهم الرئيسة المتعلقة بمصير وجودهم كمنتمين لاتجاه أهل البيت (عليهم السلام) ، ثم تستفرغ كل طاقاتهم في مسائل فرعية لا ثمرة فيها، ويوجه تفانيهم وإخلاصهم للدين ضد عادات وتقاليد شرعية أصيلة أيدتها المرجعيات الدينية مطلقا أو وضعت لها ضوابط ومعايير خاصة كان لها الأثر البالغ في تشكيل ثقافة البحرين، ولولاها لما كان للتشيع والشيعة من وجود على ظهر هذه الجزيرة. |