بسمه تعالى
كيف يحتل سجناء العقل والفكر شعائر عاشوراء ؟!
اعتقلت ثم سجنت انفراديا في الزنزانة رقم 35 الواقعة في الوسط من الجناح الشرقي لسجن المنامة ( القلعة) من بعد ساعات أربع مضنية تخللتها مساءلات أمنية أطلقتها ألْسِنة شداد غلاظ لعناصر أجنبية تابعة لدائرة أمن مطار البحرين عند منتصف يناير 1980م . وفي نهاية تلك الساعات أُعدت إفادة موجزة شكلت قاعدة بيانات مؤقتة ارتكز عليها عناصر المخابرات السياسية أثناء إجراء التحقيق الرهيب معي في مبنى مخابرات القلعة .
وفي تلك المرحلة الزمنية ، كنت معتقلا محظوظا ومتميزا على غيري من المعتقلين ، ليس في قسوة التعذيب وأساليبه ، إنما في الوضع ( الاستراتيجي) للزنزانة التي حشرت فيها. فالزنزانة تقع في مقابل دورات المياه وحمامات السباحة التي تتوسط الجناح الشرقي لسجن المنامة، حيث تجري بالقرب منها الكثير من مظاهر حياة السجناء وانعكاساتها على الوضع العام في السجن، مما يزيد في فرص التعرف على طبيعة الأفكار والأحاسيس والعلاقات البينية التي يمارسها السجناء ويعرفون بها .
وقضيت اشهرا قاسية من العزلة في تلك الزنزانة الانفرادية بانتظار المثول أمام قاضي التحقيق في المحكمة . ومما كان يؤنس عزلتي في الحبس الانفرادي أنني أمضيت الكثير من الأوقات منشدا لحركة السجناء المحكومين عند صباح كل يوم حتى مغيب الشمس ، وتابعت ما كان يصاحب هذه الحركة من تبادل للأحاديث الودية في بعض الأحيان أو المتوترة في اغلب الأحيان . ولا أنسى أيضا أن بجوار زنزانتي زنزانة أخرى كنت أشترك مع نزيلها ـ الذي لم أعرفه بعد ـ في تبادل أصوات الطَرَقَات على الجدار الفاصل بين الزنزانتين في محاولة لرفع المعنويات كلما عاد أحدنا من جلسة التحقيق . وكانت هذه الحركة البسيطة في معطياتها تشغل سمعي وذهني وتخفف شعوري المميت بالوحدة في تلك الزنزانة الضيقة والموحشة .
ولأنني كنت تلقيت جزء يسيرا من ثقافة السجون في مطلع حياتي السياسية ، فكان يهمني كثيرا أن أمضي فترة اعتقالي بسلام وبدون خسائر أمنية بين صفوف أصدقائي . لذلك حرصت على الانشغال بحركة المحيط الجديد الذي رُهنت فيه ،وقيدت ذهني بالتفكر في حدود اللحظة الراهنة ومجرياتها وتطوراتها ، مع تجنب الامتداد الذهني السلبي في نتائج الاعتقال أو التحقيق ما استطعت وتمكنت.
ولعل افضل ما جمعت من معرفة بسيطة من خلال الموقع المهم للزنزانة الذي يرتاده كل المعتقلين والسجناء بلا استثناء ، هي : أن المستوى الفكري للسجين غالبا ما يكون مقيدا بمستوى وحجم المعارف التي تدور بين الزنزانات ، وهو الأمر الذي من اجله يكافح المعتقل أو السجين عادة ، ويبذل الكثير من الجهود في سبيل تطويره عبر الاستزادة بما يتيسر له من معارف بسيطة ومحدودة تدور بين السجناء أو يتحصلون عليها من خلال سجين جديد وافد أو لقاء سجين بعائلته أو زيارة سجين لعيادة السجن أو من بعض المواد المهربة . وتلعب الأحلام دورا كبيرا في تشكيل فكر السجناء إذا ما شحت تلك المعارف ونضبت العقول وعجزت عن التحليل.
وتأسيسا على تلك المعارف القليلة التي تضيق دائرتها كل يوم وتنكمش، يتبلور سلوك السجناء ويتشكل فكرهم. وأنا بدوري كمحتجز في الزنزانة ولا يسمح له بالاختلاط بالسجناء ، لم اكن أبالي كثيرا وبجد في أول أيام الاعتقال بكامل الصراع المرير والعراك الذي ينشب دائما بين السجناء على اختلاف أعمارهم ومستوى ثقافاتهم واتجاهاتهم السياسية ويصل إلى حد التضارب بالأيدي في مرات متكررة لأسباب جزئية وحجج تافهة وبسيطة جدا ، لكنني تفهمت بعض تداعيات الصراع والعراك وعللها.
ففي سجون البحرين وجدت أن الفردية المتزمتة والمتطرفة تنمو بسرعة فائقة بين السجناء السياسيين، ويجد ما يتبعها من أذى يصب صبا من الأقران على الأقران ومن الأخوان على الأخوان مناخا وبيئة مناسبة ومتوافقة جدا .
فهنا (هوشة) على عقب سيجارة أو عود ثقاب أو على فرص دخول أو خروج الحمامات ودورات المياه أو تنظيفها. وهناك (هوشة) على إبريق الشاي العتيق الذي لا يستطيع الناظر إليه التمييز بين أطرافه لفرط النتوءات وكثرتها على جداره الخارجي . وهناك في مكان آخر ( هوشة) على الأسرة ومتعلقاتها وأوضاعها...او ( هوشة) على حب شخصية أو مرجعية دينية أو سياسية . وبين هذه وتلك تنمو الشللية بتداعياتها السلبية ، فينحَّى بعض السجناء جانيا وتثار ضدهم الإشاعات ولا يخص أحدهم ببركة أو خير أو مباركة من زعيم هذه الشلة أو تلك ، وتطبق عليه العزلة الاجتماعية المطلقة في السجن حتى يتمنى انه لم يخلق على وجه هذه الجزيرة.
وهكذا تمضي الأيام ويطوي نزلاء السجن أنفاسهم على وقع مشاكل تتجزأ وتتفرع وتنمو في تفاصيلها الجزئية الضيقة في كل لحظة. كل ذلك بسبب ظروف السجن القاسية ، وطبيعة السجانين المتعجرفة ، ومستوى الحصار المضروب على المعارف والحجر عليها ، وقلة وسائل المعيشة ، وما ينجم عن هذه من ضيق في الأفق الذهني والعقلي وضمور في الفكر . وتشكل كل هذه النتائج السلبية غرضا ومقصدا تتسابق إليه دعائم وركائز النظام السياسي الاستبدادي ، وتسقط عند هذه الأغراض والمقاصد نمور وأسود ، كما وتصمد عندها أيضا نمور وأسود وطنية أخرى ، فتتخرج الساقطة من السجن مذمومة مدحورة ، بينما تتخرج الصامدة في الجهة الأخرى ممدوحة منصورة .
وإن السجن ليضيق أكثر من ضيقه على نزلائه كلما كانت ساحة الصراع الاجتماعي والسياسي التي يفد منها السجين ضحلة في فكرها وفقيرة في معارفها الحضارية . ومن مثل هذه الساحة يرد السجين أجواء السجن بعقل جامد محدود وبقلب مقبوض ، فيختزل مساحة السجن الضيقة فيضِيق عقله اكثر، ويُضيِّق بهذه المساحة وبهذا العقل على الآخرين أنفاسهم ، ويحيلهما إلى مكمن لقتل آماله وآمال غيره ، ويجعل منهما كسارة لتحطيم وتدمير إرادته وإرادة غيره ، فيساهم بذلك مساهمة عظيمة في تحقيق مقاصد وأغراض نظام الاستبداد .
إن النظام السياسي الاستبدادي قد علم تماما معنى الحرية في بلادنا على مدى اكثر من خمسين عاما مضت، فأعد لنا قوانينه الجائرة وشيد لها السجون وهيئ لنا مناخا اجتماعيا وثقافيا موبوءا لقهر حرياتنا وتدميرها بين قلاع سياساته القمعية، بينما جهل أكثرنا في الجهة الأخرى معنى الحرية فأعد كل مرصد لأي مظهر من مظاهرها ، وشحذ ضدها كل آلاته ووسائله خشية تمرد صاحب هذه (الحرية المجهولة) على ما يُعتقد انه شياع سياسي مفيد للاطمئنان تقوده نخبة من رموزه أو قياداته السياسية . ولا عجب في ذلك ، فـ "الناس أعداء ما جهلوا" في قول الإمام علي ( عليه السلام).
فحينما تقيد الحرية في ساحتنا السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية حرفيا بمواقف أو آراء التيار العام ، أو حينما يكون معيار صحتها وسلامتها مرهون بمدى التزام هذه الحرية أو انسجامها مع هذه الآراء والمواقف ، فلا تسمى حينئذ بالحرية ، بل إنها تفقد معناها ومضمونها ودلالتها.
فهل يمكن لأي مواطن منا أن يشعر بممارسته لحريته بشكلها الملتزم عندما يبدي رأيا أو يمارس موقفا موافقا ومنسجما مع الآراء والمواقف الأخرى السائدة في التيار أو جمعياته أو مؤسساته ؟! . إن المواطن بهذا الرأي أو الموقف لا يمثل شيئا جديدا ، ولا يضيف في قائمة الآراء والمواقف ما يعبر عن ممارسته لحريته ، لأنه أساسا ليس بحاجة للحرية ليصنع من خلالها مثل هذا الرأي أو الموقف، ولن يكون متميزا بهما بين الضعفاء أو الأقوياء ، او العلماء أو الجهلة ، لأن أي واحد من هؤلاء يمكنه بلا تكلف أو مشقة إطلاق مثل هذا الرأي أو ممارسة هذا الموقف بصور متساوية .. فإن صودرت هذه الآراء أو المواقف أو اعتمدت فلن يزيد حنون في الإسلام خردلة !..
أما إذا عزم المواطن على بلورة رأي أو موقف حكيم مختلف أو مخالف، ثم توكل لإطلاقه ، فأنه هنا بحاجة لممارسة حريته . فالحاجة للحرية لا تتم إلا عند الاختلاف في الآراء والمواقف، وعلى أساس مثل هذه الحرية ومعانيها تبنى الشعوب والحضارات الحرة ، وعلى أعمدتها تؤسس المنافسة في الوسط الاجتماعي والسياسي والثقافي ، وعلى دلالتها تنمو حركة الإبداع وتزخر التنمية بأبعادها المختلفة بعطاءاتها الإنسانية. ولمثل هذه الحرية تخضع قيود الاستبداد ، وتستحيل السجون إلى مدارس تمتحن فيها معادن إرادتنا وأفكارنا وثقافتنا ، وتتحول ساعات النزال في الوسط الاجتماعي ضد نظام الطوارئ الاستبدادي إلى ساعات تجتمع فيها كل قوى المجتمع في وحدة عضوية في جَلد الحديد بلا مشقة أو تكلف أو أنانية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن اندماج المواطن في مؤسسات المجتمع الأهلي هو ضرورة لا انقطاع عنها. لأن هذه الضرورة قادرة على جعل المواطن عقلا يلتمس دائما التمييز بين ممارسة التعبير عن الرأي كحق مشارك ، وبين ممارسته كمظهر من مظاهر إخراج قيمة الحرية إلى الواقع الخارجي عمليا.
وكلما أثارت هذه المؤسسات بثقافتها عقل المواطن وأطلقت له حريته في إبداء الرأي المخالف وابتعدت عن التضييق عليه بحججها ، فإنها ستصنع من نفسها كتلة حيوية حضارية لا تنال منها العواصف والأزمات . أما إذا فرضت قيودا وموانع تحد من الرأي المخالف بحجة المحافظة على وحدة صف التيار ، أو بحجة إلزام الاتباع أو الأشياع بأهداف أو قرارات القيادات أو الرموز ، فإنها بذلك تُحكم الأصفاد وتُدخل الاتباع والأشياع في جدل عقيم يحد من حرية الرأي ومقيد لها ، مما يؤدي مع تقادم الأيام إلى جمود في العقول وبساطة في الفكر وسذاجة في السلوك . وإزاء ذلك يتحول الاتباع والأشياع إلى سجناء الرأي ، فلا طموح لهم إلا في أدنى الأمور وأحقرها . ولنا في الواقع الاجتماعي والسياسي خير برهان .
فقد حققنا وضعا سياسيا انفتاحيا في السلطات ، لكننا لم نوفق في صناعة وضع اجتماعي وثقافي مقبول في التيار الشعبي يعي كيفية ممارسة الحرية في أوسع نطاقها ، فتخرج عنا مثل ذاك الذي ليس همه سوى النيل من فلان منافس وإسقاط فلان مخالف، أو تشويه سمعة هذه المؤسسة أو تلك ، أو التعرض للمرجعيات الأخرى ، وفي اعتقاد هؤلاء الاتباع أو الأشياع السذج انهم يؤدون بسذاجتهم خدمة وطنية أو وظيفة دينية مقدسة ، وفاتهم أن عقولهم قد ضاقت كما تضيق عقول السجناء كلما امتد بهم الزمن وحصار أمن السجون ، كما فاتهم أن رموزهم أو مؤسساتهم التي ينتمون إليها قد تشكلت دوائر حصار وجدر متينة كجدر السجن .
ولعل أسوء مظهر من مظاهر حصار العقول ومنع حرية التعبير عن الرأي وسجنها عند الاتباع أو الأشياع في الوسط الاجتماعي والسياسي، أن الاتباع والأشياع يختزلون البلاد وقضاياها الوطنية كلها في تيارهم أو مؤسستهم التي ينتمون إليها ، فيحافظون على نسق دعائي فج على حساب مصلحة الوطن والشعب وقضاياه ، ويعززون من مكانة تيارهم على حساب حريات الآخرين . وهذا الأمر ببداهة يترك أثره سلبا على التيار العام في حال تطلب منه المشاركة في صناعة موقف شعبي موحد إزاء المطالب العامة.
وبالمناسبة ، خذ على سبيل المثال حركة المآتم والمواكب الحسينية في العشرة الأولى من محرم ، ستجد أن بعض الاتباع والأشياع ممن يجهل معنى الحرية أو صودرت منه بحجة واهية فضاق عقله ، لا يرى على وجه هذه الجزيرة مأتما أو موكب عزاء مقربا لوجه الله تعالى إلا ذاك المأتم الذي يرتاده وموكب العزاء الذي يتبعه كل عام ، بينما يجعل من بقية المآتم والمواكب الحسينية الأخرى مقربة لوجه الشيطان الرجيم . وإذا بالنهضة الحسينية الإنسانية العظيمة قد تقلصت وانكمشت أهدافها عنده ليكون مثالها الأعظم مسيرة قاصدة الطعن في مأتم وموكب عزاء فلان ومبجلة بفلان رمز سياسي ، بدلا من جعل كل المآتم والمواكب رمزا واحدا لإحياء شعائر الله .
إن بلادنا عانت ومازالت تعاني من الجهل بحق المواطن في ممارسة حرية التعبير . وبالأمس القريب عانينا من الاستبداد السياسي والحكم المطلق ، واليوم مازال الكثير منا يمارس الاستبداد بصور أخرى لا تختلف عن صور الاستبداد الرسمي للدولة . ولعل افضل مخرج من حال سجناء الفكر والعقل الفاقدين حرياتهم بلا وعي، هو رفع اليد عن المواطن وإطلاق فكره وعقله في فضاء اكثر سعة من دائرة الحزبية وشطط خطابها الضحل.
ومن أراد العمل في سبيل دينه ووطنه فعليه تحمل مسؤولية بناء مواطنين أحرار لا بعض المواطنين من سجناء العقل أو الضمير . ولا منقذ حضاري لبلدنا إلا ويكمن في أكثرية شعبية حرة ومستقلة ، وواعية بدينها ومبادئها، وتمتلك معيار الأفضلية فيما يخص مصلحة الوطن ، ويكون بيدها محور ميزان السلامة فتحافظ على اتزانها كلما حاولت عناصر إحدى الكفتين الترجيح على حساب الأخرى.
كريم المحروس
06-02-2004م
|