ليلة الرحيل
لا زالت تلك الصور الأخيرة للحظات الفراق العصيبة لفقيدنا الغالي تحفر في ذاكرتي ، لتنحت معانٍ عظيمة وذكرياتِ سنين.
لست هنا لأتكلم عن شخصيةِ الشيخ وسجاياه وأخلاقه وسيرته المعطاءة على درب سيد الشهداء عليه السلام ، فربما معرفتنا به كأبناء صلبيين له لا تختلف عن الآخرين ، لأنه اعتبر الآخرين إخوة وأبناء وأحبة .
البداية:
شاءت الأقدار أن أكون مع والدي رحمه الله حتى لحظاته الأخيرة . لحظاتُ موتٍ مفعمةٍ بالحياة ، وقد ارتأى الأخوة كما ارتأيت أنه من حق المؤمنين والمحبين أن يطلعوا على تلك اللقطات السريعة للحظات عروج أنفاس الشيخ رضوان الله عليه.
قبل الأسبوع الأخير ، أنهى جميع ما عليه من حقوق للناس فقد كان دائم التركيز ويوصينا ( بحقوق الناس.. حقوق الناس) .
وفي الأسبوع الأخير رأيناه هادئ البال منشرح الصدر ، لا تغضبه الأمور الدنيوية التي ربما تغضب الأخرين ، فقد كان يواجه ذلك بابتسامة عريضة ، وكأني به يقول قول أمير المؤمنين عليه السلام ، "ماذا يريد بالدنيا من خُلِق للآخرة ".
ليلة الخميس:
وفي آخر إجتماع مع عائلته ، كان ينظر الى بناته كلٍ على حدة بعمق وحنان وقد رأيته في كامل أريحيته وملاطفته جالساً على الأرض مداعباً أحفاده وهم يصعدون على ظهرة وآخر على كتفه ، فينهض ضاحكاً متبسماً والأطفال في غمرة الفرحِ يسيرون خلفه ينادون " بابا عود بابا عود " ولا تدري تلك العيون البريئة بأن جدهم يودعهم الوداع الأخير.
يوم الخميس:
كما يعلم الكثير- بأن الشيخ قد ألقى خطاب تأسيس لرابطة أو تجمع أو( مجلس للخطباء الحسينين ) ... وقد تكلم أهل الشأن في هذا الصدد ونسأل الله أن يوفقهم.
يوم الجمعة : التقى مع وفد من قرية دمستان في بيته وقد كانو عازمين على إقامة حفل تكريم لسماحته في نهاية ذلك الأسبوع الذي لم يكن من عمره نصيبٌ لحضوره ، حيث ودع الدنيا قبل فجر يومه الأول ليحظى بشرف التكريم الأرفع.
ليلة السبت :
في آخر صلاةِ جماعة له رحمه الله في مسجد الحوراء لمنطقة كرباباد ، وبعد أن انفتل من الصلاة ، نقل لي بعض الأخوة أن الشيخ قبلنا وضمنا الى صدره بشكل لافت أكثر من قبل ، فقد عُرِف الشيخ بروحه الشبابية، وينقل أحد الأخوة أيضاً بأن الشيخ سأله تلك الليلة عن الجهاز اللاقط المعد لصلاة الجماعة ،فقد كان معطوباً وكان يفترض أن يشتري جهاز آخر ، ولكن لظروف خارج الإرادة لم يستبدل الجهاز وقال الأخ للشيخ بإنه سيستبدله في أقرب فرصة ، فابتسم الشيخ وضرب على كتفه وقال له بكل أريحية وحنان وباللهجة الدارجة المعتادة " يا ولدي هذي شكلها مو رزقنا" ومضى ..
ليلة الرحيل :
كنتُ جالساً في غرفتي وقد تأخر الوقت وكنت على وشك الرقاد ولكن لا أدري ما الذي يمنعني تلك الليلة من النوم ، فبينما أنا كذلك وعند الساعة الواحدة صباحاً تقريباً ، فاجأني فتح الباب وأمي بالألم تناديني " قوم شوف أبوك ".
نزلت مسرعاً ، ووجدت أبي في وضعٍ لأول مرة في حياتي أراه فيه، و كان جالساً ، بالقرب من مُصلاه الذي طالماً أحيى الليالي فيه.
عاجلت باستنهاضه فقام مهرولاً مسرعاً للسيارة وهو يقول لأمي "الظاهر إني سأموت قبل أبي" فقد كان والدي - وحتى في مثل هذه اللحظات الحرجة - مشغول البال بوالده! حيث كان-وليومين- يرقد في المستشفى إثر إصابته بجلطة دماغية –والذي توفي بعدها بما يقارب عشرين ليلة فرحمة الله عليه.
إلى المستشفى:
اتصلت لأخي محمد وأتى مسرعاً، ركبنا السيارة وتدهورت حالة أبي أكثر فأكثر وقد علمت من أخي بأن الوالد مصاب بضيق التنفس منذ زمن ولكن الشيخ لم يعتد أبداً بأن يشكو الضعف لأحد خصوصاً أولاده ، فقد كان عزيز نفس لأبعد الحدود ، لا يكلف أحداً بأموره الشخصية، خصوصاً تلك التي يجد القدرة على أدائها بل وحتى ما يخص البيت والمعيشة فإنه يأنس - عادةً - بإعداد طعامه وشرابه بتكلتا يديه، وقد كان بعد فراغه من الطعام يرفع معه تلك الأواني أثناء قيامه من المائدة .
أركبت أبي في الخلف وجلست خلف المقود ومعي أخي وانطلقت مسرعاً إلى المستشفى ولكن ملك الموت كان أسرع ...
هذه اللحظات القدسية لن أنساها ما حييت ، فيا لكرم آل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، ضيق تنفس وحالةُ احتضارٍ حرجة وصوتٌ متقطع لم يبقِ له الموت إلا لمّاً من شهيق ولكنه وبفضل الله وكرم الآل قالها بكل وضوح " لا إلا إلا الله محمد رسول عليٌ ولي الله" واتبعها منادياً يا علي يا علي يا علي ، وكأن الآل يهمسون في أذنه فقد كانوا بجانبه : أبا عبد الأمير ، حجرتك الولائية لهجت بذكرنا عمراً بأكمله فهيهات أن نخذلك في هذه اللحظات ، فآخر عمل تختم به صحيفة أعمالك اسم علي بعد الشهادتين .
مرحاً وألف مرحاً أبا عبد الأمير .
|