بين انتصارين... وهزيمتين
في ليلة الهرير..
في معركة صفين وفي الليلة الشهيرة بـ ( ليلة الهرير ) وعندما اصطف جيش أمير المؤمنين (عليه السلام ) وجيش معاوية، وكان القلق والحديث عن الحق والباطل، ومن هو الطرف الذي يقف مع الحق ومن الذي يقف مع الباطل، كما كانت تثور تساؤلات عند البعض، وعند الكثيرين كان الحق والباطل واضحاً، ولكن لم تكن هناك إرادة لمقاومة الباطل والوقوف مع الحق أو لم تكن هناك رغبة في ذلك....
وانطلقت المعركة..
وعندما انطلقت المعركة وكان على ميمنة جيش أمير المؤمنين ( مالك الاشتر ) وهو من شهد له الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بقوله ( إنه المؤمن حقاً ) وقال فيه أمير المؤمنين علي (عليه السلام ) : ( كان لي مالك كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله ) وتقدم جيش علي زاحفاً ومنتصراً ومتقدماً حتى شارف ( مالك الاشتر ) على مركز قيادة جيش ( معاوية ) وبانت علائم الهزيمة في جيش الأمويين...
الخديعة والانخداع..
حينها تحركت الخديعة من قبل جيش معاوية برفع المصاحف وجرى ما جرى من رفض علي ابتداء وأنها خديعة واستنكار أصحاب الجباه السود ممن سيعرفون لاحقا بالخوارج، ومن ثمّ وعندما قبل أمير المؤمنين (ع) بوقف القتال وقبل بالتحكيم، خرجوا عليه بأنه لا حكم إلا لله.....
اللحظات الحاسمة...
كان مالك الاشتر على بعد خطوات من مركز قيادة جيش معاوية حينما جاءه الأمر من أمير المؤمنين بوقف القتال فوراً، وكان ذلك غريباً في نظر مالك، وظن أنها مكيدة لوقفه عن الزحف والوصول إلى مركز قيادة معاوية، لكن الأمر تأكد من علي (عليه السلام) وأنه يأمره بوقف القتال، هنا كان طلب مالك من أمير المؤمنين أن يمهله القليل من الوقت لينهي المسألة برمتها وينهي الحرب من خلال قضائه على معاوية، ولكن الأمر من علي (عليه السلام) يتكرر ( ارجع...وإلا قتل إمامك )..
على مفترق طريقين..
هنا وقف ( مالك ) [ وهو من هو في موقعيته العلمية والفقهية والسياسية ورمزيته الاجتماعية ]، على مفترق طريقين، إما أن يتقدم متجاهلاً أمر أمير المؤمنين (ع) بالتراجع وينهي المعركة منتصراً وهو العالم أن بإمكانه ذلك وأنه لا شيئ يمكن أن يحول بينه وبين الانتصار، وبين الامتثال لأمر أمير المؤمنين (ع) والتراجع وهو يعلم يقيناً أنها مكيدة وأن هذا التراجع سيخسره الحرب لا محالة، ولو على مستوى أنه سيفقد انتصاراً كان في متناول يده وهذه خسارة بالمنظور العسكري...
وكان لا بد أن يكون لكل موقف ثمن ونتيجة، وهنا تبدأ الحسابات، وهذه الحسابات بلحاظ الفترة الزمنية حسابات من خلال ثوانٍ معدودة يفترض بها أن تعالج كل هذه الحيثيات والجوانب، وأن تحدد المصير، بينما المعركة على أشدها والقتال بالسيوف والحراب والنبال على أشده، في هذا الظرف كان يراد لمالك أن يدرس كل هذه العوامل وأن يتخذ القرار...
الانتصار العسكري وهزيمة القيادة..
كان التقدم ومواصلة الزحف يعني انتصاراً عسكرياًً لا محالة، ولكن كانت تقابل هذا النصر هزيمة لموقع ومفهوم القيادة الشرعية عندما يتجاهل الأمر الصادر إليه بالتراجع، سوف يحقق النصر لكن على حساب قيمة القيادة الشرعية، سوف ينتصر لكن ستسقط القيادة، وستموت القيادة، ( والموت هنا أعم من الموت المادي والتصفية الجسدية للإمام أو الموت الروحي والمعنوي حينما يتفرغ مفهوم الإمامة من معناه حينما لا يكون امتثال له من قبل المؤمنين به والمتمسكين به )....
الهزيمة العسكرية وانتصار موقع القيادة...
وفي الطرف الآخر كان الامتثال للأمر الصادر من أمير المؤمنين بالتراجع يعني في المفهوم العسكري خسارة فادحة وهزيمة، لانتصار كان في متناول اليد، لكن هذا التراجع امتثالاً لأوامر القيادة الشرعية فيه حياة لموقع القيادة ومفهومها، وفيه انتصار للمبادئ على حساب الحسابات الشخصية والآنية، وفيه تثبيت لمعنى الانقياد الشرعي الذي يمثل الأساس لحركة المؤمنين، ويمثل المائز والفارق بين المؤمنين بالقيادة الشرعية عن غيرهم...
القرار ...
وكان القرار من مالك الاشتر بالامتثال لأوامر أمير المؤمنين (عليه السلام) والتراجع، وهو يدرك جلياً أن ذلك سيعني تراجعاً وخسارة عسكرية، لكنه الإيمان والوعي والبصيرة، التي تجعل الإنسان وهو يُعمِل كل هذه الحسابات يدرك أن الانتصار العسكري أو السياسي أو أي انتصارٍ آخر في ظل مخالفة لأوامر القيادة الشرعية الإلهية انتصارٌ فاقدٌ لكل مضمون، وانتصارٌ آني مؤقت، لا قدرة له على الدوام والاستمرار، وأن الاستجابة لتوجيهات وأوامر القيادة الشرعية، وإن أدى إلى خسارة وهزيمة عسكرية لكنه انتصار لموقع القيادة وهو انتصار أهم بكثير من أي انتصار عسكري أو سياسي مؤقت، بل أن الخسارة التي نجنيها عندما نتجاهل توجيهات القيادة الشرعية، أكبر بكثير من كل ما يمكن أن نجنيه سياسياً أو عسكرياً، مهما بلغت نتائجه..
حسابات الآخرين وحساباتنا...
كم يفرح الآخرون عندما ننطلق بعنتريات فارغة لنعبّر من خلالها زاعمين أننا نمتلك الرصيد الكبير من الوعي والفهم والإرادة والقدرة على إرغام واقع سياسي معين على الاستجابة لمطالبنا، ونحن نسحق كل مفاهيم الالتزام والارتباط والانسجام مع خط القيادة الشرعية الإلهية، بل ونتجاهل تماما كل توجيهاتها المؤكِّدة على الالتزام بأطر وآليات محددة لا نتجاوزها في حركتنا السياسية، وأن علينا أن لا ننساق وراء عواطف وأحاسيس يمكن أن تقودنا إلى ما لا يحمد عقباه..
صحيح أن ضغط الواقع كبير، والآلام كبيرة، والمآسي عظيمة، والتراجعات في الواقع السياسي بل وعلى كل المستويات بدرجات لا تتصور، وأن الأمة تتجرع كل يوم من الغصص والآلام الشيء الكثير، لكن أن ننطلق على غير هدى ولا بصيرة ولا مرخِّص شرعي دقيق، فذلك أمر خطير وانحدار كبير، خصوصا وأننا نحمل الفكر الذي يؤسس لبناء حركة الواقع في كل مجالاته وفق الرؤية الشرعية الدقيقة والبصيرة..
نعم يريد الآخرون منا هذا الانفلات، وكم يفرحون أيّما فرحٍ حينما يروننا بعيدين كل البعد عن قياداتنا، نحرّك الساحة كيفما نشاء، ونتحرك فيها كما نشاء، ونصنع ما نشاء، من خلال تقييمات وحسابات خاصة نرى بحسب نظرنا أنها الأدق والأصوب، من دون أن نولي اهتماماً لتوجيهات علمائنا ومطالبهم، إن لم نتجاوز لنسحق مواقعهم تحت أقدامنا وحينها لا تكون قيمة لكلمة موقع قيادي شرعي في داخل الأمة، وحينها تجرّ الأمة وهي في غفلة من أمرها خلف قناعات هنا أو هناك، لا تحقق الامتثال الشرعي المطلوب، وحينها تكون الخسارة عظيمة، مهما كانت كبيرة المكاسب الظاهرية التي نتصورها بل ونحققها...
السيد محسن الغريفي
4 ربيع الأول 1428هـ
24 / 3 / 2007م |