الحسينية أو المأتم الحسيني مثال فاعل ونشط ، ذو معالم ثقافية واتجاهات اجتماعية متعددة لا تقبل الغموض والضبابية أمام كل ذي ملاحظة بسيطة ساذجة أو بصيرة نافذة . وعلى هذا المثال الحسيني الحضاري الرائع البارز تأسست قواعد متينة لمؤسسة شعبية دينية ، مستقلة في الوظائف التاريخية المقدرة لها ، ومحافظة على ديمومة عطائها الفكري وصفاء بريقه ، ، ونامية بمشاركة أجيال البحرين المتعاقبة الحريصة على رفد هذا المثال بكل عوامل التأثير مع اختلاف أنماط وقواعد التأسيس وجهاته فضلا عن تعدد واختلاف ميول كل مشارك وقف وراء بنيان هذا المثال وكل من لازال يبذل من نفسه الكثير في سبيل إرساء دعائمه وأعمدته في الوسط الاجتماعي العام .
ويتشكل المأتم الحسيني مقرا قائما على يد فرد أو عائلة ميسورة كان عميدها يرجو لنفسه ولرهطه الثواب الجزيل والأجر الدائم بدوام هذا المأتم وبقاء فاعليته بين أبناء الحي الواحد . والى جانب هذا الشكل من التأسيس للمأتم الحسيني عرف تشكيل آخر من التأسيس في دائرة مشتركة مساهمة تنادى أبناء منطقة من المناطق لاستكمال مقوماته وبناء دعائمه وقواعده والإخلاص في تحقيق مقاصده.
وفي كلتا الحالين المذكورتين في التأسيس يستحيل هذا المأتم في المنتهى إلى محور يجتمع حوله أبناء المناطق ويتكاتفون بلا إمعان نظر إلى جهة التأسيس ، وبصرف الاهتمام عن أصناف القائمين عليه ومصادر تمويلهم ، لأن هذه الجهة أو الأصناف إن وجدت فلا خيار لها إلا الانصهار في المقاصد والأهداف التي لابد لها أن تنتهي خالصة إلى خدمة أهل البيت (عليهم السلام) والمشاركة في مواساتهم وتجسيد فاجعة الإمام الحسين (عليه السلام) لاستلهام قيم نهضته على طريق صناعة واقع مثالي في عملية ثقافية واجتماعية تراكمية خالصة قد تكون بطيئة في مرحلة تاريخية يسود فيها نظام أمنى مستبد يحصد الأنفس ويحصي الأنفاس ، وقد تأخذ مداها الطبيعي في الامتداد والتأثير بين فرص الاستقرار السياسي والأمني في مراحل أخرى مختلفة ولكنها في جميع الأحوال تظل مستمرة لا انقطاع فيها. فهذه واحدة من أهم أسرار اللطف الإلهي الملازمة لقضية الإمام الحسين(عليه السلام) التي أدركها طلابها منذ لحظة وقوعها وشاهدوا قيام آثارها وتيقنوا من عظمتها عند الله سبحانه وتعالى .
ومادام المأتم مؤسسة شعبية حسينية التأسيس والمقاصد وتشتمل على نظم تسيّر إمكاناتها المادية والبشرية ؛ فهو مصنف كمؤسسة عامة لا يمثل فيها الخصوص إن وجد إلا الاعتباري منه ، ولا حقيقة للقول بأن هذه حسينية أو مأتم (فلان) أو مؤسسة حسينية لـ(فلان) إلا لغرض التمييز فحسب وليس لغرض التعريف أو تبيان حد أو رسم.
والى ذلك يتمسك كبار المؤمنين المؤسسين والممولين لمشروع المأتـم الحسيني في عصرنا الحديث بإطلاق مسميات تشير بوضوح إلى دلالة الوظيفة الكبرى للمأتم الحسيني ، فلا يضاف اسم المؤسس أو أي أحد من أفراد عائلته إلى اسم الحسينية إلا لغرض الإشارة إليها بين عدد كبير متزاحم من المآتم الحسينية تغص بها الأحياء الشعبية الصغيرة والأزقة الضيقة في المدن والقرى. ويسعد هؤلاء المخلصين المؤسسين والممولين لمآتمهم الحسينية اقترانها بأسماء أهل البيت(عليهم السلام) ، كـ(مأتم سيد الشهداء) أو (حسينية أمير المؤمنين) أو (حسينية السيدة زينب) أو (مأتم السيدة أم البنين) أو (حسينية علي الاكبر) مثلا ، كما يرون في مثل هذه المسميات نكرانا للذات في مقابل حجم العطاء الكبير والتضحية غير المحدودة التي قدمها إمامهم الحسين (عليه السلام).
وربما يشار إلى أن هذا المأتم الحسيني يمثل هذا الاتجاه الديني السياسي أو الفقهي المرجعي أو حتى المهني و المناطقي في مرحلة تاريخية معينة مؤقتة منظورة ، إلا أن ذلك لا يمثل إلا سمة من سمات طلائع نهضة حديثة عهد بالنظريات والنظم الاجتماعية والخبرات العملية ، ولا تمتلك هذه الاتجاهات الاستطاعة المطلقة في عقد أثر ثقافي أو اجتماعي متكامل الأبعاد على هوية ثابتة ومتقدمة حضاريا لهذا المأتم الحسيني أو ذاك الآخر أو مقاصدهما . كما أن هذه السمات والبدايات الفتية لا تشكل إطارا محدِّدا أو مقيِّدا لأصالة المأتم الحسيني على هذا الاتجاه أو ذاك ، وذلك لكون هذه الاتجاهات على علم يقيني بأن مشروع المأتم الحسيني مستند إلى بعد حضاري ضارب في عمق التاريخ كان نجح في بلورة وسيادة ثقافة خاصة ، كما أنه مستند إلى بعد حضاري ممتد إلى آفاق مستقبل يصعب تصوره إلا بمعتقد يأخذ بـ(الآخرة) منتهى لهذا العالم ، فلا يقبل التحجيم ولا التطويع لأغراض خاصة أو مرتهنة إلى مرحلة زمنية متغيرة الأحوال والاجتهادات.
يضاف إلى ذلك : أن هذه الاتجاهات في غالبيتها – مهما علت وسعت إلى تجسيد الحقيقة أو التعبير عنها – يتمالكها الضعف والتبدل والتحول الذي يظل شأنا من شؤونها ، وإنما هي تسعى جاهدة للاستفادة من قوام المأتم الحسيني الثابت ومحله ورعاية الله تعالى له ولطفه فيه . وربما تمثل حال الاتصال بما جمعه المأتم الحسيني من حشد اجتماعي ومن ثم تطويعه لتحقيق أهداف ومقاصد اجتماعية أو سياسية مرحلية -واحدة من أهم مظاهر الاستفادة من هذه المؤسسة الحسينية المجردة من فكرة الهيمنة والاحتكار.
وعلى ذلك ، فالاتجاهات الثقافية والاجتماعية التي تطمح إلى كسب فيض من معطيات المأتم الحسيني؛ لا تمثل إلا مرحلة تاريخية محددة الأطر ومعدودة في الأيام ولها نظمها وتقاليدها وعادتها الخاصة ورؤيتها المختلفة للحياة والشريعة، بينما يحتفظ المأتم الحسيني منفردا بمقره الثابت المستوعب لكل أنماط التطور والنمو الثقافي والسياسي والاجتماعي البشري على مر الأجيال بحكم المقاصد التي جُعلت وقُدرت لهذه المؤسسة الحسينية. فما بال البعض يغور في مسميات المِلْكية الاعتبارية الخاصة ويلبسها المآتم الحسينية ويتطرف في فرض التصنيفات الحزبية الساذجة عليها ليقطع من خلالها سبل الاجتماع العام على حق متصل ، ثم يتمادى في القول باحتكاره الحقيقة المطلقة في بعدها السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي من خلال نشاطه في المأتم الحسيني؟!.
لقد كادت المآتم الحسينية في مرحلة السبعينات أن تخضع بشكل كامل للميول الحزبية اليسارية والقومية والبعثية في شكلها السياسي الصرف لو لا تدارك الواعين لهذا الخطأ النضالي والديني الجسيم بعد تعاظم الهيمنة السياسية على المآتم الحسينية تحت شعار حشد كل الطاقات والمؤسسات الشعبية في معركة التغيير السياسي . ومازال البعض من الإسلاميين ضيقي الأفق يقفوا هذا الأثر الحزبي ويسعى جاهدا إلى تحقيق هذه التجربة المريرة المجربة بالهيمنة السياسية وإخراج هذا الخضوع إلى الواقع العملي بمسوغات سياسية خالصة من دون وعي للوظيفية الحقيقية الكبرى للمآتم الحسينية ، حتى خرج هذا البعض على الملأ ليعلن عن مشروعه (الإصلاحي) في الشعائر الحسينية تمهيدا لضبط مذهبه هذا في عموم الساحة السياسية ، وفي ظنه أن الموقف السلبي من العادات والتقاليد العاشورائية المشروعة الجارية في المآتم الحسينية منذ قرون - طريقة فضلى لحشد الطاقات الشبابية الهائلة (السائبة) التي شكلت مظهرا جليا من مظاهر فشل مشروع التغيير السياسي المعارض .
فما الفائدة المرجوة من تعبئة الطاقات الشبابية المتحزبة تلك في بعض المآتم الحسينية ضد شعيرة التطبير الحسينية وما إليها التي لا تخلوا النصوص الدينية من تأييد لها وإظهار الاستحباب فيها ؟.
لماذا هذا الحشد الشبابي السلبي الكبير في المآتم الحسينية الذي لم يعد يميز في حشده هذا إلا صورا سياسية سلبية ساذجة كبلت أذهان اتباعه ومناصريه ومواليه حتى ظن الظان منهم أن الشعائر كلها لن تستقيم وبحاجة إلى صياغة سياسية ضرورية شجاعة منسجمة مع متطلبات واقع إعلامي ورأي عام دولي راهن ، والحال أن هذا الإعلام لم يخلوا من هيمنة مذاهب سياسية علمانية منحرفة أو سلفية جاهلية وحشية تخفي انحرافها ووحشيتها وتتستر تحت ألوان رمادية من المنظمات السياسية الوحدوية والقومية المعتدلة ومؤتمرات التقريب الإسلامي الداعية إلى تحقيق أغراض استراتيجية هادفة تكريس نظم حكم فاسدة ممثلة لشكل طائفي خاص كان مهيمنا على سلطات البلاد الإسلامية منذ عهد سقيفة المدينة المنورة المنعقدة قبل اكثر من 1300عام.
وكما يعتقد الكثيرون من اتباع التشيع لأهل البيت(عليهم السلام): أن أهم وظائف المآتم الحسينية تتلخص في وظيفتين أساسيتين : كشف وفضح وإدانة مسار ونهج تاريخي سياسي بدأ حاكما مستبدا على المسلمين منذ ساعة ولادة مؤتمر السقيفة والانقلاب على الأعقاب ، إلى جانب وظيفة رسم معالم لمستقبل جديد موافق لمبدأ الإمامة وقيم الإسلام الحقيقي . ورجح بعض فقهاء التاريخ والاجتماع والأديان من خلال هاتين الوظيفتين: أن الإسلام ولد مع ولادة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ولكنه منع من السيادة والنمو بعد وفاة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) إلى يومنا هذا ، ما يقطع الشك في أن الإسلام لم تقم له قائمة في تلك المرحلة إلا بين يدي فئة مستضعفة مثلت الأقلية وكانت المآتم الحسينية عرينها ، وحاضنتها الطبيعية ، وملاذها لحفظ هذا الدين وتزويده بشحنات علمية وعاطفية دافعة تبقي معالمه صامدة أمام كل موجة فكرية منحرفة عاتية أو أمنية مستبدة وحشية فاسدة .
وقد سجل التاريخ الإسلامي الشيعي حتى اللحظة الراهنة موجة عاتية استطاعت المآتم الحسينية امتصاص أثر كدماتها وصدماتها ، وهيئت اليوم الأمر لتحقيق فوز ساحق أمامها: فقد وفدت إحدى هذه الموجات عن أثر طليعة التنظيمات السياسية الشيعية التي نشأت على فكر التقريب واكتسبت به نظام الخلايا الحزبية المعارضة عن منظمات الأخوان المسلمين القائمة على اتجاه الخلافة ،فظن زعماء هذه الموجة الشيعية أن تشطيب العادات والتقاليد ، ومنها الشعائر الحسينية على وجه الخصوص ، فضلا عن إعادة تنظيم وظائف المآتم الحسينية ومهامها ومقاصدها ؛ يمكّن لهذه التنظيمات الحزبية من تحقيق مآربها في عقد تقارب مع المنظمات السياسية لاتجاه السلف والخلافة ، وان ذلك من شأنه – إذا ما تحقق- صناعة الخطوة الأساسية والاستراتيجية العظمى على طريق جمع طاقات الاتجاهات الإسلامية كافة ومن ثم توجيهها نحو دائرة التغيير السياسي الكبير في العالم الإسلامي. وفات دعاة هذه الموجة الحزبية الضيقة أن ذلك يتطلب قلب التشيع رأسا على عقب وحرف مسيرته ، وهذا ما كان يمثل مراد اتجاه السلف وبعض اتباع اتجاه الخلافة السياسية وينسجم مع حلمهم الأكبر منذ أمد بعيد جريا على نتائج رزية يوم الخميس في مؤتمر سقيفة بني ساعدة. وقد لمس العالم الإسلامي مظاهر ذلك من خلال متابعات مؤتمر التقريب بين المذاهب الذي انعقد مؤخرا في دولة قطر فضلا عن وقائع العراق اليومية.
من هنا كانت العودة إلى اتجاه التشيع الأصيل من بعد هذه الآثار السلبية الجانبية التي طبعتها هذه الموجة الحزبية - صعبة للغاية ولكنها لم تكن مستحيلة في مثل ظرفنا الراهن الذي انكشفت فيه عورات ، وعورات تشابهت حتى اقتربت في صورتها من صورة عورة عمرو بن العاص. وقد لمس أتباع اتجاه التشيع أثر ذلك من خلال متابعتهم للقنوات الفضائية الشيعية الأولى الداعية جزئيا لعمليات البث المباشر أو المسجل لمجريات المآتم الحسينية في بادئ الأمر . وكان الخجل والتردد ظاهرا واردا على ذهنية هذه الفضائيات ومعبرا عن مقاصدها في حرف مسيرة التشيع وشعائر المآتم الحسينية حتى نأت بالموارد الإعلامية عن عرض وقائع المجالس الحسينية كاملة ، واقتصرت جوانبها المهنية على عرض موضوع المجالس الحسينية مع حذف المراثي وطرقها المعروفة في مطلع المجالس ونهايتها، وتجنبت نقل شعائر العزاء بصورها المتكاملة وأي لمحة من لمحات أو صورة من صور مواكب التطبير والتشابيه وما أشبه ذلك .
وإذا ما كانت هنالك ضرورة لنقل المجالس والمحاضرات عند اتجاهات التقريب ؛ فإنها تُنقل مقتضبة ومشذبة ، وبعد أن يتلاعب بين مفاصلها مقص المونتاج ويكتفي مبرمجها بعرض أجزاء خاصة منها بقصد إظهار صورة شيعية معتدلة مهيأة لكسب ود ورضا حلفائها من بعض المنظمات السياسية على اتجاه الخلافة ، ولحصد نتائج هذا التحالف مع أبناء السلفية المتوحشة وتعزيز دور التقريب معها.
وإزاء ذلك كله ، سجلت لبعض الفضائيات والوسائل الإعلامية الجديدة التي مثلت اتجاه التشيع الأصيل سابقة خرقت على أثرها العادة الإعلامية المقيتة الأولى ، وبادرت إلى عرض كامل في بث مباشر أو مسجل لكل ما يمت للمآتم الحسينية ومظاهر اتجاه التشيع بصلة ، فأخذ نتاج المأتم الحسيني دوره الحقيقي والمتكامل بين برامج الفضائيات الاسلامية ، وسادت المجالس الحسينية معظم فقرات تلك البرامج حتى أصيبت فضائيات التقريب غير المنصف والعادل بحرج كبير جعل غالبيتها تميل للعودة عن منهجها الإعلامي الخاطئ ، خصوصا بعد انكشاف الكثير من عورات الوحشية السلفية ودجل أطراف مذهبية أخرى نادت بعقد وبرصد مؤتمرات واجتماعات التقريب المذهبي.
لقد وفد على المآتم الحسينية فكر ضال مضل ، مطعم بآثار بعض المنظمات الفقهية السلفية الوحشية والمنظمات السياسية لمذاهب أخرى فكانت الشعائر الحسينية ضحيته الأولى وكانت فئة الشباب في البحرين آلة من آلات تحقيق هذه المآرب الفكرية الضالة. ولكن المآتم الحسينية بدأت تنهض من جديد كما نهضت من قبل لوقف آلة الاستغلال النضالي الليبرالي بشتى اتجاهاته ، وجددت محيطها وظلت رائدة بالحسين وأهل بيته (عليهم السلام) ومحافظة على كيانها ومقاصدها بإرادة ربانية ، ولن تقبل الالتقاط الفكري الهجين الذي جعل من خاتمته رضا لعالم مذاهب أخرى مستبدة وسبيلا ومبتغى لتبرير أساليب التشطيب غير المنصف لقيم ومبادئ وضرورات اتجاه التشيع الأصيل ، ولن يقيض لهذه الخاتمة الرقي على أي منبر من منابر اتجاه التشيع الأصيل ، لأنها باتت مظهرا من مظاهر الهزيمة النفسية لها ولدعاتها ، وستبقى دليلا من أدلة جهلها بمصادر التشريع الإسلامي ونصوصها ودلالاتها الصحيحة والحوادث التاريخية التي رافقتها.
|