تقديس المنجز يؤدي إلى الاقتصار على مؤلفات لا خروج منها
كريم المحروس *:
العدد 230 - الأحد 16 رمضان 1427 هـ - 8 أكتوبر 2006
على مدى حلقات بحثية متسلسلة، وفي شهر رمضان المبارك، يكتب الباحث البحريني كريم المحروس تحليلاته العلمية لمؤلفات الأقدمين في منهج الحوزة العلمية، والتي يرى أنها باتت في حاجة ملحة وضرورية للمراجعة وإعادة النظر، وفي هذه الحلقات يقف المحروس عند جوانب مختلفة من تكوينات ومكوّنات هذه المؤلفات، ويُحلّل أهم أبعاد القصور أو النقص التي تعتريها سواء في المدرسة الشيعية أو في مدرسة الخلافة، بحسب تعبيره. وفيما يلي الحلقة الخامسة من هذه السلسلة.
روح البحث والتجديد
إن الجمود على المؤلفات المعتمدة في المؤسسة التعليمية الدينية ليس نابعا من مضامينها ومحتوياتها العلمية المكتنزة، بل إن الإشكال الوارد هنا أن المتعاطين مع هذه المؤلفات في وسط المؤسسية التعليمية أخذوا هذه المؤلفات كعطاء قممي مقدس ممتنع عن التحقيق والبحث والتقييم والتقويم، لوجود اعتقاد راسخ بأن هذا اللون من البحوث لا يأخذ بتقييمه إلا من قبل من ارتضته المؤسسة التعليمية أو أجمعت على تميز علمه وفضله، وهذا مما لم يتوفر في تاريخ هذه المؤسسة مطلقا. فهذه الحال قيدت ذهنية الطالب والمدرس معا وأخضعتهما بين جدر الجمود على القديم، فأخمدت روح البحث والتقصي والمناقشة والنقد والتنقيب والتحقيق للوصول إلى الجديد المتقدّم. فَسَرت هذه الحال في جل الوسط العلمي في زمن طويل من عمر المؤسسة التعليمية.
يضاف إلى ذلك أن الوسيلة التعليمية بقيت على حال واحدة دون إبداع تبعا لوحدة الموقف من محتوى تلك المؤلفات. ‘’فلقد كان العلم إلى ما قبل النهضة مباشرة عبارة عن أقوال يسلمها الشيخ لكتابه ويسلمها التلميذ لشيخه، فإذا استقامت تراكيب الكتاب وأفادت معنى صحيحا لم يكن في ذهن الشيخ قوة على التماس الدليل ولم يكن من حق التلميذ أن يطالبه بالدليل إذا تاقت نفسه إلى الكمال بمعرفة الشيء بدليله أو انقدح في نفسه خاطر من شك في صحة تلك القضية فأراد أن يطرده بالدليل كما يطرد خاطر الشر بالاستعادة بالله. لقد كان التسليم أصلا من أصول الأدب في جميع ما يُعمّر مجالسنا العلمية من الأحاديث وأن هذا لهو المنفذ الذي دخلت علينا منه الخرافات والأحاديث الموضوعة والمبالغات السخيفة والآراء المضطربة وكبائر الغلو وموبقاته حتى أصبحت كلها علما وأصبحنا مكرهين على تحمله وأدائه’’. (آثار البشير محمد الإبراهيمي. ص74).
ووصلت تلك المؤلفات بعظمتها إلى ولادة تراكم علمي وخبرة أغنت العلوم في جوانبها الفقهية والأصولية وحتى اللغوية ولكنها من جهة أخرى أعادت أحاديث التجديد والإصلاح بعد غلبة التعقيد وغلو التضخم في مباحث الألفاظ عبر القول بوجوب تجريد علم الفقه والأصول والكلام مثلا من آثار العلوم العقلية الزائدة كالفلسفة. ‘’فقد لعب علم الكلام دورا مهما في تموين الفكر الأصولي وأمده.. لأن الدراسات الكلامية كانت منتشرة وذات نفوذ كبير على الذهنية العامة لعلماء المسلمين حين بدأ علم الأصول يشق طريقه إلى الظهور، فكان من الطبيعي أن يعتمد عليه ويستلهم منه’’، (دروس في علم الأصول . ص92-94).
دور الأفغاني وعبده
وأما تطور علم الكلام ذاته فكان للسيد جمال الدين الأفغاني دور كبير في تحديثه قبل أكثر من قرن تقريبا من خلال تأليفه كتاب ‘’الرد على الدهريين’’ ردا على الطبيعيين ودعاة الحشو والالتقاط والتكلف باسم التجديد في علم الكلام، كالشيخ شبلي النعمان المتوفى في 1332هـ صاحب كتاب (علم الكلام الجديد). وسار على خطى الأفغاني تلميذه الشيخ محمد عبده في كتابه (رسالة التوحيد)، ‘’الذي تجاوز فيه مفاهيم أساسية في التراث الكلامي الأشعري، ونقضها وأوضح تهافتها، وتبنى مفاهيم بديلة، فيما يتصل بمسائل القضاء والقدر والجبر والاختيار والعدل الإلهي انتقاها من تراث المعتزلة والإمامية في أصول الدين، مضافا إلى محاولته استكشاف ما يختزنه التوحيد من فعاليات نفسية واجتماعية وحضارية وأخلاقية’’، (مجلة النور،ع 99/8/1999م، عبدالجبار الرفاعي). فهذه كانت محاولات إصلاح وتجديد منسجمة مع متطلبات الواقع ومتفاعلة مع حوادثه ومتداخلة مع الموقف العام المناهض للفكر الوافد ومشروعه التعليمي.
محاولات بين النجاح والإخفاق
كانت المؤسسة التعليمية الدينية في النجف الأشرف وقم المقدسة قد بذلت محاولات إصلاح وتجديد في مواد علوم الفقه والأصول و الكلام، ومن بينها محاولات المحقق محمد حسن الغروي الأصفهاني مدرّس البحث الخارج في كتاب (المتاجر)، والأخوند في كتابه (الكفاية) الذي شمل مباحث في الجبر والوجود، والسيد هبة الدين الشهرستاني الذي كتب في الوجود النظريات العلمية الحديثة في الكون والخلق، والسيد الصدر في حلقات (الدروس)، والسيد الطباطبائي في (بداية ونهاية الحكمة)، والشيخ المظفر في (الأصول الفقهية).
وأخفقت محاولات حديثة أخرى، كتأليف كتاب (أصول الاستنباط) للسيد علي نقي الحيدري الذي قُرِّر كتابا تدريسيا في كلية الإلهيات والمعارف الإسلامية ثم عُدِل عنه، ومؤلف الشيخ المشكيني في تجديد كتاب (المعالم) لتسهيل ألفاظه فلم يؤخذ به ولم يكتب له النجاح. وقد بُنيت أغلب هذه المحاولات على أسس وقواعد فلسفية على غير عادة المنهج القديم الذي رفض الفلسفة واستخدم آلاتها ومناهجها في علم الكلام القديم فحسب لنقض المباحث الفلسفية المناهضة للأصول الدينية، ما جعل من هذه المؤلفات والبحوث عرضة لنقد مناهضي علم الفلسفة وحشو مباحثها ومناهجها في علوم الفقه أو الأصول الفقهية أو علم الكلام وغيره.
|