في لقاء حضرته مصادفة في لندن ، لم يخلو من عض الأصابع على خلفية اعتقال صدام حسين ؛ تحاورنا وتناقشنا وتضاربنا بالآراء والأفكار . وكان من بين الحضور، المتخصص في العلوم المدنية بأشكالها وألوانها ، والعلوم الدينية بمستوياتها، وبيننا أيضا ذلك الإنسان البسيط الذي لم يكن له حظ وافر من العلم والثقافة.
وبعد أن عرجنا على المصير المنتظر لصدام حسين ، استشاط أحد أصدقائنا من أهل مدينة كربلاء المقدسة غضبا على تصورات بعض الحضور الذاهبة إلى وجوب محاكمة صدام محاكمة علنية عادلة ، وقال :
"يجب أن يحرق صدام ويذر رماده في البحر" !.
فاعترض صديق آخر من مدينة النجف الأشرف ، فقال في كبرياء :
" إن الحرق هين على شخصية مثل صدام ، وإن البحر لطاهر . إنه شخص يستحق الرجم في ساحة عامه . وقبل موته ؛ يصب عليه من حميم حمض (الأسيد) حتى لا تبقى إلا عظامه . ثم توزع عظامه على مدن العراق لتعلق عند بواباتها. ثم... "!.
وقبل أن يستدرك النجفي هذا الاقتراح الأخير بالتتمة ، قاطعنا آخر من مدينة الموصل بقوله :
" لا .. إن كل ذلك هين ، فصدام يستحق اكثر من ذلك .. انه يستحق أن تقطع رأسه وترمى لأطفال المدن العراقية ، تتلقفها وتتقاذف بها كرة على مدى عام ، كما تقاذفت بنو أمية بالخلافة بعد مقتل الأمام علي (عليه السلام) حسب قول أبي سفيان - ثم يصلب جسده على باب اكثر سجون العراق دموية وإرهابا"!.
وبينما أصدقاؤنا يتضاربون بالمعطيات والمطلوب ؛ شد ناظري أحد الأصدقاء الجلوس على ركن . ثم تناظرت أعيننا فتبسم لي ، فرددت التحية له تبسما ، وأنا على علم مسبق بأن هذا الصديق رعدٌ هدارٌ لا صوت يعلو صوته ، وتتعب الألسن عن مجابهته ، قوى الحجة في مناظرته ، متين الرأي والبرهان في مجادلته . ولكن لا جولة له ولا صوت في هذا اللقاء الساخن ..على غير العادة.
فغادر هذا الصديق كرسيه متجها صوبي وكأنه رغب في فك استغرابي للهدوء والسكينة فيه .. فاستدرت له احتراما . فقرب فاه من إذني اليمنى وهمس لي بخمس كلمات على عجل ثم رحل . فخيم الهدوء فجأة على تلك المجادلة العقيمة .. وتيقنت عند ذاك الحين أنها عقيمة بعد رحيل هذا الصديق الذي لم يكن له من الدنيا حظ في العلم والمعرفة .. إنه نجار من أهل البصرة وعمره لا يتجاوز العشرين .
فسألني اكثر الحضور عن سبب مغادرته بهذه الطريقة المثيرة ونحن لم نخلص بعد من حوارنا . فلم اجب أحدا . وبعد لحظات من الهدوء ، بادر أحدهم وسألني عن الكلمات التي أسر بها إلىّ . فلم يكن مني إلا أن أطلقت كلماته الخمس :
" إننا أيها البحراني كلنا صدام "!
فأخذَت بعض المتجادلين رجفة الاعتداد بالنفس . وعقب أحدهم بصرخة في كلمات متتابعة : " نحن أصحاب حق ، وعذبنا وشردنا ، وقهرنا أعداؤنا، أليس لنا حق في معاقبة صدام"!
لقد ذهب صدام إلى غير رجعة ، ففرحت الصدور وانتشت الرؤوس . ولكن المشكلة الكبرى على الصعيد الإنساني والحضاري ظلت تكمن في أمرين :
الأمر الأول : أن صدام الشخص ، قد ولى إلى غير رجعة ، ولكن صدام الظاهرة كانت قاهرة في العراق وغيره قبل ولادة صدام ، وستظل قاهرة مادامت هذه الظاهرة قائمة فينا. ففي كل مكان هناك صداميون كثر . وكم من لعنة قد صدرت من صدام إلى صدام آخر ، وكم من وصف بذيء قد صدر من صدام إلى مثيله ، وكم من عقاب بغير قانون ولا سنة ولا ناموس قد صدر من صدام إلى نظيره ؟!.
إن صداما يتكرر فينا وننسى انه " الشيطان" الذي يعلب ويمرح ويسرح . فلننظر إلى واقعنا في البحرين . إننا نرفض الإرهاب والقمع السياسي والأمني الصادر من النظام القائم ونطالب بالعدالة الدستورية ، ولكننا نمارس ظاهرة صدام في القمع والإرهاب على بعضنا من خلال كل ما يتوفر لدينا من وسائل .
وربما كانت الصفحات الإليكترونية هي اكثر الأمثلة الحديثة على ذلك القمع والإرهاب إثارة. فلنقارن بين محتويات هذه الصفحات وسياساتها . سنجد أن 95% تقريبا من هذه الصفحات على مستوى الجزيرة بكاملها تخرج على كونها وسائل إعلامية ، ولا تختلف كثيرا عن سياسات صحافتنا اليومية والأسبوعية. ثم بعد ذلك نلعن صحافتنا ومحتوياتها! .
خمسة وتسعون بالمائة تقريبا من الصفحات الإليكترونية الشعبية المنتشرة في البحرين تؤدي أدوارا دعائية خالصة لأشخاص ، أو أنها دعائية لمؤسسات . وما تبقى من هذه الصفحات المستقلة ظلت تؤدي أدوارا إعلامية ولكنها تفتقر إلى الخبرة ، أو أنها في طريقها للدعائية بعد أن سال لعاب الطامعين من الدعائيين فيها ، فسعوا باسم حرية الرأي والمشاركة إلى فرض هيمنتهم وإرهابهم من خلالها .
لقد كانت وسيلة الاتصال الجماهيري حكرا على السلطات ، فتلاعبت بها أيدي المرتزقة من المتمولين والجشعين ، فحولوها إلى هرقلية دعائية لأصحاب "الكروش" الكبيرة وغيبوا عنها أصحاب العقول الكبيرة ، فوصلت إلى " هرقلية" تستنزف أموال الدولة بغير طائل . وإذا بالحركة الشعبية الحضارية المعارضة تتحول في نظر هذه " الهرقلية " في قيد الدعاية إلى حركة إرهابية قمعية متخلفة في فكرها ومصادرها العلمية !. وإذا بالأقلام تتحول بين ليلة وضحاها إلى أعمدة من حديد تهوى الطعن في الظهور على غير عادة تقاليد العرب.
واليوم ، شاخت وسيلة الهيمنة والاحتكار وهزمت ، وذلك بتوسع دائرة التطور التكنولوجي ، فأتيحت لنا فرصا ذهبية لم تكن متاحة لنا بالأمس ، فانسلخنا عن جلدنا ونسخنا سياسة السلطة الدعائية نسخا ، ودرجناها بديلا بأسماء أخرى ، فخرجت لنا على هيئة مماثلة .. دعائية أبا عن جد! .
فأين الصفحات الإعلامية التي تسعى جاهدة لأن تؤدي دورا تنمويا مستقلا ؟ وأين الصفحات في النقد والنقد الذاتي ؟ وأين الصفحات المعالجة لمظاهر التخلف الاجتماعي والثقافي ؟ وأين الصفحات الموظفة لخلق التوازن السياسي بين قوى وفئات المجتمع؟ وأين الصفحات الموظفة لحماية عقل المواطن واستقلاله؟ وأين الصفحات التي تلعب دور الوسيط بين الحق والواجب وبين القانون ؟ وأين الصفحات الموثقة الكاشفة عن معضلات المجتمع ، كالتجنيس والبطالة ؟ وأين صفحات البحوث والدراسات في قضايا المجتمع ومؤسساته ؟
ربما يجد البعض أن الدعاية للشخصيات والمؤسسات أمر مهم أساس . ولكنني أقول : أننا لسنا بلدا كبيرا كالسعودية أو العراق أو إيران أو مصر ، حتى تكون الغلبة لعدد الصفحات الدعائية على الإعلامية امرأ مهما . فأقصانا على هذه الجزيرة يعرف أدنانا . فما بال كل منطقة من مناطقنا تؤسس لصفحة إليكترونية دعائية تشبه في أهدافها ومضمونها التسويقي أهداف ومضمون صفحات شركات السيارات والصابون وغسيل الشعر والمأكولات والأجهزة الكهربائية وما أشبه .
لقد كنا نحتج على الوظائف المتخلفة للسلطات الساعية إلى بنيان مناطقها الاستراتيجية المتعلقة بسوق المال ، وأهملت قرى البحرين التي تشكل 60 % من المناطق السكانية وتركتها لنفسها ترزح تحت نير تخلفها وفقرها وأمراضها ومساكنها الآيلة لسقوط ، ثم راحت تمارس أقصى الدعاية لبنيانها الهش الذي سقط أثره المعنوي والمادي مع أول مبادرة شعبية احتجاجية ضد القمع والإرهاب - بينما نحن اليوم نؤدي نفس الوظيفة من خلال الصفحات الإليكترونية بعدما تعلق الأمر بوظائفنا ومسؤولياتنا إزاء مجتمعنا .
فلو ذهبت بعض الصفحات إليكترونية إلى الاختصاص في المقارنات الإعلامية الرقمية في مناطقها ، وبحثت متعلقات هذه الأرقام بالوظائف الاجتماعية ، لكان ذلك أجدى واكثر نفعا ، ولاكتشفنا الغرائب والعجائب ، ولبدت لنا عورات وعورات ، ولتيقنا بأننا مقصرون في واجباتنا كثيرا .
فعلى سبيل المثال : لو أحصينا عدد العاطلين في مناطقنا وبحثنا الأسباب الكامنة وراء البطالة بشكل ميداني علمي وعلني ، لامتلكنا الحجة البالغة من وراء ذلك . وكذلك لو أحصينا مثلا عدد علماء الدين والخطباء والاجتماعيين في مناطقنا ، ثم أحصينا المال والزمن وفرص التوجيه والإرشاد لأهل المناطق ، لاكتشفنا أن مناطقنا ؛ إما أنها كانت بحاجة إلى عدد آخر من علماء وخطباء واجتماعيين متفرغين لشد الأزر في معالجة ظواهر التخلف ، وإما أن العلماء والخطباء والاجتماعيين في مناطقنا يزيدون على حجم الوظيفة المقدرة لهم ، فنكتشف بذلك أن الخلل هنا يكمن في وظيفة المال وتوزيعه ، أو في الزمن وتنظيمه ، أو في الأداء وتقسيمه ، أو في تحمل مسؤولية التنمية الاجتماعية بإخلاص.. وهكذا.
فمن كان منا بخطيئة فليس له الحق أن يرمي الخطائين بحجر . ولا يحق لنا أن نحكم على صدام حسين بأحكامه الظالمة ، إنما علينا معالجة الظواهر الاستبدادية في ذواتنا قبل أن تفرض علينا الظروف سلوكا استبداديا تحت مسميات ومبررات نعتقد أنها صحيحة وهي في حقيقة الأمر شكل من أشكال الجهل المركب .
الأمر الثاني : نقول : إننا فرحنا لارتفاع الخوف والإرهاب عن معيشة إخواننا العراقيين التي عرفت ضنكا لا مثيل له إلا في عهد الحجاج الثقفي ، ولكننا نتفطر حزنا على ثلاثين عاما من عمر العراق قد ذهبت هباء منثورا ، ونحن على يقين بأن ثلاثين عاما من عمر بلد غني في ثرواته المادية والبشرية وعريق في تاريخه كالعراق - تعني الكثير من التنمية الشاملة والسريعة جدا.
فقد اختطف صدام حسين ثلاثة عقود من عمر هذا البلد الكبير ، وستعدم هذه العقود أو تسجن بإعدامه أو سجنه ، شئنا أم أبينا ، ولن يستطيع أحد ردها من عنقه ، فهي لم تعد رهن ملكه أو ملك غيره ، إنما هي ملك للشيطان يتخذها سبيلا . وإن ظاهرة صدام لازالت حاكمة على الكثير من الأنفس المريضة في العراق وفي وسطه الحزبي والاجتماعي، وبحاجة إلى الإنقاذ والعلاج عبر مشروع تعليمي وثقافي صحي عظيم نأمل ألا تعلب فيه الأيدي الأمريكية ضمن مشروعها في (مكافحة الإرهاب).
ظاهرة صدام حسين تلخصت في مقولته الأخيرة بعدما سئل عما اقترفت يداه ، حينما قال:
" أنا عادل ولكنني حازم "! .
وهكذا تنظر الأنفس المريضة التي تعتلي سدة الزعامة ، ولا فرق بين أن تكون هذه زعامة فرقية أو حزبية أو سلطانية . فمن مخصصات الكثير من هذه الزعامة أنها لا تستطيع النظر إلى ذاتها لتقيمها بغرض تقويمها ، لأنها تجد لها باب التبرير عظيما في سعته ، ولأن الشيطان لهذه المبررات سندا وظهيرا. فهل نترك لها أن تخطف منا عقودا من حاضرنا بلا نصيحة وتقويم في إطار حقوقنا مواطنين في كل وقت؟
فإذا ما نظرنا إلى واقع بلادنا ، فإن الزعامة الدينية أو السياسية مطلوبة لأنها ضرورة . ولكن على هذه الزعامة أن تعرف بأنها تدور في وسط اجتماعي متخلف ومحكوم بظرف سياسي معقد ، مما يوجب عليها الكثير من الوظائف الاجتماعية والثقافية المؤسسية البديلة والمرنة التي يتسنى من خلالها التعرف على النواقص شعبيا في الزعامة ومدى نجاح أو فشل مشروعها الاجتماعي والثقافي بعيدا عن المزايدات. والعجيب في بلدنا ، أننا أصبنا بإخفاق سياسي مرات عدة على مدى قرن مضى ، ولكننا لا نمتلك الدراسة والبحث والتوثيق والتقويم لهذا الإخفاق . وان السائد إلى يومنا هذا ، هو كم هائل من التبريرات السياسية الدعائية . وكل ذلك يجري ونحن لم نمتلك سلطة سياسية بعد ، فكيف بنا إذا اعتلى أحد منا الزعامة أو الرئاسة أو السلطنة .. فهل نقترب من صدام حسين وشيطانه؟!
إن البلد الذي يستطيع أن يقيم تنمية صالحة أو حضارية سليمة ، هو الذي يمتلك القرون كلها مستقرة لا نصب فيها ولا خلل . وان سر قوة وتقدم بعض البلاد ، هو استقرار تنميتها وإرادة شعوبها في وضع البدائل الحضارية لكل إخفاق اجتماعي أو انتكاسة سياسية أو تراجع اقتصادي أو تخلف ثقافي ،وذلك بعد وضع المقدمات الصحيحة عبر إجراء البحوث والدراسات المستفيضة. بينما بلادنا ( خلطة كيميائية كخلطات صدام) ما أن تخرج من أزمة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية حتى تبحث لذاتها حلا في عقد أزمة أخرى تأخذ بكل الجهود والطاقات إلى الدرك الأسفل من التخلف . وهذا هو أحد أسرار تتقهقر سلطتنا السياسية واستبدادها فينا ؛ فضلا عن تراجع زعاماتنا عن تبني الفكر الحضاري السليم والسلوك النقدي المنقذ.
أما وقد بلغنا ما بلغنا ، وصدام ماثل أمام أعيننا مهزوما مكبلا بالأصفاد ؛ فهل نكون بعد ذلك قادرين على الالتزام بقول للنبي عيسى عليه السلام :
{ من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر}.
وهل مازلنا نتمسك بمبررات صدام (العادلة الحازمة) في كل خياراتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية ، التي لا منتهى لها إلا جعلنا جسدا طاهرا له خوار ، برأس أشيب كرأس صدام حسين؟!
كريم المحروس 15/12/2003
|