مال الله " مال الله "
" يا الله من مال الله " كلمات يرددها فقراء البحرين السابقون دائما حين يفدون على أبواب المعدمين من أهالي حي النعيم تيمّنا بالحديث [المال مال الله والناس عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله].
وكانت كل الأبواب في هذا الحي عامة إلا باب الشيخ احمد مال الله (أعلى الله مقامه) ، فهي باب خاصة يفد إليها الفقير ويتلقى عند عتبته الخشبية صدقة فوق صدقة: صدقة مال الله من "مال الله" وكلمة جميلة حسنة هي الأخرى صدقة.
لا عجب في ذلك ، فمال الله هو "مال الله" واليه كانت طفولتنا تتناول كلمات الفقير عند باب الشيخ بالفكاهة فنقابله بالقول: (شوفوا.. إتقول يا الله من مال الله من " مال الله" عند بيت مال الله ، وإذا ما وصلت إلى باب بيتنه ما أتقول: يا الله من مال "آل المحروس" بس اتردد: يا الله من مال الله .. عجل روح للشيخ مال الله يعطيك من ماله!
لا تتميز باب بيت الشيخ احمد مال الله عن بقية الأبواب في هيئتها.. باب تتعكز على "رادتين" خاملتين ذابلتين مشابهة لبابين مستسلمتين للريح وعوامل التعرية في بيتنا الكائن خلف مسجد الشيخ يعقوب . ولم يكن الشيخ (اسكنه الله فسيح جناته) يفرق بين بابينا وباب بيته ، يفد إلينا من خلالهما بتحيته وسلامه ، ويخترقهما دائما بتحياته من مجلسه خلف"الرادة" الفاصلة .
وكم كانت طفولتنا تأنس بسماع نبرات صوته حين يكرر أبيات واقعة الطّف من خلف "الرادة" المتهاوية لبيتين وما أدراك ما هما .. يتشاركان في كل شيء ، حتى الرياح الموسمية حين تهب مستبدة فإنها عادلة حيالهما.. تمر فتقلع "رادتين" من الجارين. وربما أوحت رياح " العدالة المستبدة" هذه للشيخ "مال الله" حين يهم برقى المنبر الحسيني أن يميل دائما بتميز ثقافي وشجاعة فكرية للطعن في هذه"العدالة " المبتدعة عن أحداث السقيفة .. يردد أهوالها ومخاطرها على بيوت المسلمين عموما والشيعة على وجه الخصوص، ويحذر من المنتهى الذي ستصل إليه بعد بلوغ حركتها "الوهابية" مبلغا إرهابيا خطيرا على الفكر والطبيعة البشرية.
وفي ذلك ،أخذ عليه بعض علمائنا وخطبائنا من خريجي حوزات العراق أنه موسوم بالخطب "السياسية" ، في وقت انشغل كل واحد منهم بحراسة صيوان بيته لعله يحفظ لعائلته "رادة".. وما كان الشيخ العزيز يأخذ في ذلك بتقاليد وثقافة العراق إلا احسنها ، وكنا نتبع بعض ألفاظه الجديدة ، من مثل: " القندرة" حين يسمي النعال ، وهي أولى كلمات العراق التي تناهت إلى اسمعانا والفتها طفولتنا في تلك الفترة الزمنية التي غدت فيها الأمطار الشتوية بٌلغة أهالي بيوت سعف النخيل في النعيم حين ينشغل أطفالهم بلا "قنادر" بسيولها وأوحالها ، فلا يهم عندهم مصير "الرواد" وأبوابها مادام الأطفال في غمرة الفرح مبتهجين لا مكتئبين.
والحقيقة ، أن الشيخ نأى بنفسه عن المفهوم الخاطئ للـ "السياسة" بعد أن راودها منتقدوه الذين هموا بها وهمت بهم ، لأنه عرف أن "السياسة" هذه قد قدت قمصانهم من قبل . فالعاقبة وحسن الخاتمة أولى بالرعاية من مداخل السياسة وزبرجها، فمن لم يستطع أن يحقق فوزا في عمله الاجتماعي بنهي عن منكر وأمر بالمعرف بالتي هي أحسن فهو غير جدير بتصدر "السياسة" ، وكأن الشيخ قرأ ذلك قبل الآخرين .. وكم من محاولة بذلت لجر هذا الشيخ الجليل للسياسة بنمطها الحزبي "المقدود" في منطقتنا وغيرها ولكن الشيخ ألف "السياسة" بطريقته .. السياسة هي لحفظ دين الناس ومصالحهم لا لحفظ مصالح ممتدة في مفاهيم فئوية غير واعية وغير مدركة لمحيطها الثقافي والاجتماعي.
هي المرة الأولى التي أرى فيها الشيخ متقدما الجموع على غير العادة .. ولكنه في صورته " الفوتوغرافية" وجنازته متخلفة عنها وعشرات من البكائين وألوف من عشاق مجالسه.. ربما لأني اعتدت رؤية الشيخ بين كل فئات المجتمع بلا تكلف ، فهو المميز دائما بحبه وشغفه بسمة التواضع على غير العادة ولا ينفك عنها وكأنه تمرد على تقاليد العلماء .. لا هيبة تطأطأ أمامها الرؤوس .. ويأتي حين الطلب بلا حرج ويأبى أن يؤتى إلا لعلم يكتسب.
لم أجده يوما يتصدر مقدمة الناس مع جمع العلماء وفئة الوجهاء حين تخرج مواكب العزاء أو المسيرات في كل مناسبة .. ربما كان يرى أن التجمع الفئوي في مقدمة المسيرات عادة عراقية وليست بحرانية ، ورثها البحرانيون عن غير قصد ولم يلحظوا أن مسيرات العراق قائمة على منهج التقسيم المهني والوظيفي والعشائري والمناطقي فتسمى المسيرات بأسمائها ، من مثل: موكب طلبة جامعة كذا ، موكب عشيرة كذا، موكب أهالي قضاء كذا ، موكب طلاب العلوم الدينية في منطقة أو حوزة كذا .. موكب علماء حي كذا او حوزة كذا..
أحزنني كثيرا أن أرى الشيخ العالم "مال الله" لا أكتاف للعلماء تتوسد جنازته ، وكأن الجنائز لا تحمل إلا على أكتاف العامة من الناس ، وعلى فئة العلماء الأحياء أن تختار طريقها سهلا ميسرا في مقدمة المسيرة لأن الثواب قد وضع عنهم في حمل الجنائز على الأكتاف واستبدل بثواب المشايعة فحسب!.. وهل في حمل الجنائز خرق للعدالة ونيل من رفعة ورزانة ؟!
أحسست في جنازة الشيخ غربة ووحشة عشقها المتواضعون من أهالي المنطقة وخارجها برغم الألوف الحافة بهذه الجنازة ، مثلما أحسست بنفس غربة جنازة السيد هاشم الطويل (أعلى الله مقامه) .. ربما لأني رأيت فيهما من الخلق الرفيع ما لم أراه في غيرهما، واذا ما احبهم احد حن اليهم وبكى ، وخير الخلق منا ما نجد نعمته وافرة على الناس حين المخالطة .
|