قبل أربع سنوات كنت قد تحاورت مع أحد علمائنا الأعلام عن المقصد المراد تحقيقه من الحشد النضالي الجماهيري الكبير في الانتفاضة الأخيرة . وقد سألته :
"إلى أين ستصل البحرين عند نهاية هذه الأحداث" ؟
فأجابني في ثقة المنتصرين :
"سنحقق أغلبية في سلطة تشريعية تحكم البلاد وتدير شؤونها وفق نصوص دستور 1973م. وعندها سنرسم القانون وفق ما نطمح ونرغب ولن تعرف البلاد بعد ذلك خذلانا لحق المواطن ، فلنا قياداتنا المحلية في داخل البلاد ، ولسنا مثاليين ، وإننا نؤمن بالتفكيك السياسي بين ما نؤمن به وبين ما نطمح إليه وتقدر طاقاتنا على تحقيقه" !
ولأني لا امثل التيار السياسي الذي ينتمي إليه هذا العالم الجليل ، فقد أحسست بغبطة وتساءلت في نفسي :
"هل سيحقق هذا العالم التقي في سنة أو سنتين ما لم نستطع تحقيقه في خمسة وعشرين عاما من النضال والجهاد الصعب"؟!.
لقد رجوت لهذا العالم التقي التوفيق والوصول إلى يوم الخلاص الكبير . فالانتفاضة جماهيرية وعامة ، والمطلب السياسي إذا ما تحقق على ارض الواقع فإنه سيعم بنفعه كل التيارات المتنافسة .ولكني أخذت أمره السياسي كله على هون واحتياط ، لأننا إذا ما حققنا كل مطالبنا فإننا سنظل نعاني من حجم قدرة السلطات وخبراتها في السياسة والأمن ، وفي المقابل ستظل العلاقات البينية في وسط التيارات المعارضة في مد وجزر ، وسينمو صراع الأضداد بين زعماء الأغلبية السياسية الذي يختلف عن كل صراع محلي ومناطقي من حيث حساسيته ولكونه يعتمد على خلفيات تاريخية سلبية لنفوذ اجتماعي غير مبني على فكر وحق التعدد السياسي للتيار الديني الواحد.
وخلال زيارتي القصيرة الأولى للبحرين بعد عشرين عاما من التشرد والاضطراب والاغتراب بين بلاد المهجر ،زراني هذا العالم الجليل في بيتنا الكائن في منطقة النعيم ، وقد بدت علامات الحسرة على وجهه ، وقال كلمته برأس منكسة العينين والبلاد تسرح وتمرح في أفراح الفوز الكبير:
"لن نصل إلى ما كنا نقصده . لقد ارتكبا خطأ عظيما بالموافقة السياسية على وثيقة تعاقدية ، هي الميثاق، ونحن نعلم أن الوثائق التعاقدية بين الحاكم والمحكوم لا تكون محل مساومات سياسية ، وهذا سيحبس عنا نصرنا في التزام الدولة بدستور 1973م ، وستريك الأيام القادمة دستورا غير دستورنا ، ومجلسا نيابيا غير ما رغبنا فيه" .
فقلت للشيخ العزيز :
"أرفع رأسك أيها الشيخ الكبير . فتلك الأيام نداولها بين الناس .. ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك.. فلقد حذرت مرارا خلال لقاءاتي القصيرة معك في لندن ، وذكرتك في الأيام الأولى لوفاة الشيخ عيسى آل خليفة بأن الملك قد أشار في خطبه - قبل الإعلان عن شيء اسمه الميثاق - بأن البلاد ستشهد (نسيانا للماضي) و(دستورا جديدا) . ثم بعد صدور الميثاق نبهتك إلى أن النص المتعلق بالبرلمان يؤكد بأن السلطة التشريعية ستتألف من مجلسين أحدهما منتحب والآخر مجلس للشورى معين . فالأمور واضحة وبها لبس دبر بليل وليست بحاجة إلى حنكة سياسية وخبرة قانونية تجليانها. يضاف إلى ذلك ،أن السياسة لا تقبل بأن يفرغ الملك كل خياراته لصالح المعارضة في حركة دراماتيكية عاطفية تقودها علاقات حب وعشق ومودة ، فلا تنتظروا طامتكم الكبرى وخذوا حذركم ولا تفرغوا كل خياراتكم. ولكنكم –مع الأسف الشديد- غرتكم الأيام وغلبتكم نشوة " النصر" وصرتم تنظرون إلى الأمور بقلب مفعم بالتفاؤل والأمل لا بعقل يزن كل أمر بثقله" .. ولكنه الامتحان للذات ومحيطها".
فلازال البعض من سياسيينا يصف كل هذا المنقلب على أمننا السياسي بصفة " الأزمة الدستورية" التي لا تعالج إلا بـ"مؤتمر دستوري" ينتهي بتوصيات " الأمل" ترفع إلى الملك حتى ينظر فيها بعطف وإن تطلب الأمر التضحية بدستور 1973م ولا بأس بأن يقر الملك في مقابل تلك التضحية الكبرى تعديلا على دستوره البديل.
وعجيب أمر بعض سياسيينا . انهم يفرطون بما يعتقدون انهم يملكون . فكيف بهم ينادون بعقد مؤتمر دستوري ويحرضون على عقده وفي اعتقادهم بأنهم يشكلون بهذا الإعلان ضغطا سياسيا ، ثم يتبعون هذا الإعلان إقرارا منهم بإمكانية رضاهم عن الدستور المنحة على أن يقبل التعديل. فهل سيخرج المؤتمر الدستوري بتوصية للملك تفيد بوجوب تعديل دستوره الجديد مقابل رضا الجميع به؟! . إذن لماذا يعقد المؤتمر وقد صرح بنتائجه السلبية؟ . ألم يكن في ظنهم أن تعديل هذا الدستور ونصه المتعلق بالهيئة التشريعية يتطلب تعديلا في الميثاق الذي اعتقدوه وثيقة سليمة لا غبار عليها ولا منقصة في الدعوة السياسية للتصويت عليه بالإيجاب؟!
إننا قبل أن نتحدث عن " المؤتمر الدستوري" يجب أن نتحدث عن أمننا السياسي المفقود ، والذي لن نصل إليه إلا بـ"قوة ضغط سياسي" نستمده من تحقيق أمرين مهمين :
الأمر الأول : بأن نعقد مؤتمرا جامعا لكل عناصر القوة السياسية التي ساهمت في صناعة التيار الجماهيري الضاغط خلال أحداث السبعينات والثمانينات والتسعينات، على أن يشمل هذا المؤتمر كل الرموز السياسية والدينية الفاعلة بعيدا عن قيود ومسميات " الجمعيات". ليتم في هذا المؤتمر تداول التجربة السياسية بكل أبعادها الذاتية والموضوعية ومنطقة النقص فيها منذ ما قبل وفاة الشيخ عيسى آل خليفة ، ومن ثم مصارحة الناس بكل تلك الأخطاء والنواقص. كما يتم أيضا تقويم العلاقات بين جميع الأطراف في جهة سياسية عريضة واحدة .
الأمر الآخر: أن تخرج كل القوى السياسية في تلك الجبهة العريضة ببرنامج سياسي سلمي جديد وبمسمى لا علاقة له بالجمعيات وقوانينها وقيودها، على أن تظل الجمعيات تمارس نشاطها السياسي بشكله الفردي الحر المعتاد،لأن الجمعيات أصبحت اليوم قيودا ثقيلة مكبلة للرموز والقيادات والكوادر السياسية ،وقد نبهت إلى ذلك من قبل ودعوت إلى استقلال الجماعات والشخصيات السياسية الفاعلة خلال أحداث الانتفاضة الأخيرة عن الجمعيات ، على أن تستقل شخصيات أخرى بقيادة وإدارة هذه الجمعيات.
وبتحقق هذين الأمرين ، نكون قد حققنا الشيء الكثير وصنعنا لنا قوة ضغط سياسي قادرة على جعل سياسة البلاد على المحك وعلى طاولة التمحيص والتدقيق والتحقيق الوطني. وأظن أن هذا الخيار هو الأجدى والأكثر نفعا قبل أن يعقد أي مؤتمر دستوري يتناطح فيه بالكلمات ولأن هذا الخيار سيعيد البلاد سياسيا إلى مرحلة ما قبل الميثاق أو ما قبل دستور 2001م على الأقل ، ليكون في مستطاع المعارضة تصحيح المسيرة من جديد بعد النقصان الذي اعتراها وبعد صرفها كل قواها الضاغطة وتبديدها كل خياراتها بلا حكمة.
وربما يعتقد البعض بأن تشكيل قوة ضغط سياسي في إطار جهة سياسية عريضة غير مصرح بها رسميا ستسبب في الكثير من المشكلات الأمنية وقد تطيح بكل مكتسبات النضال الدستوري ،وأن من الأفضل تبني النضال السياسي في إطار المسموح به . ولكني أقول بأن من يعتقد بأن هناك مكتسبات خاصة بالنضال الدستوري فهو إما أن يكون واهما ، وإما انه يلوك هذه المكتسبات كذبا مع أقرانه ليربت بها على أكتاف المضحين بقصد نيل سكينتهم ورضاهم به زعيما ورمزا معصوما.
وأما بالنسبة للمشكلات الأمنية فهي مشكلات متعلقة بالسلطات ورهن إشارتها في جميع الأحوال ، فإن كانت السلطات عازمة على تقويض الأمن السياسي للبلاد في مقابل حق سياسي شعبي مشروع نادى به كبار القوم ، فإنها ستراهن على الكثير من خياراتها السياسية والأمنية لا خيارات المعارضة التي لم تعد تمتلك شيئا منها. |