مناوشات بحرانية لعشاق الكشف والشهود في مناهج الحوزة الدينية
(4-5) انقلاب الكشف والشهود في منهج الدراسات الدينية
إن جدل الاتجاهات العقلية الموروثة في علم الكلام والفلسفة والعرفان ليس حديثا ، إنما احتل مكانا واسعا بين المسلمين في فترات تاريخية متقدمة ربما تسجل ولادتها الأولى كظاهرة مثيرة على عهد الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ووصلت ذروتها في نهاية القرن الرابع الهجري ، وما لبثت هذه الاتجاهات العقلية أن طبعت آثارها على الكثير من الأشكال التعليمية ومناهجها حتى أصبحت محل ريبة وشك بعدما اجتاحت الكثير من علوم المسلمين وتقاسمتها وساهمت في جمودها حينا على منطق القياس الأرسطي المتشكل من مقدمتين ونتيجة ، وحينا آخر ساهمت في خروجها على الدليل العقلي لتألف من نتائجها بنيانا قائما على قواعد غير منظورة من الكشف والشهود على الطريقة الصوفية (الأكبرية) التي اتخذها محي الدين بن عربي مدرسة وأسس عليها كشفه وشهوده ليتجاوز بذلك المتقدم من علوم الكلام والفلسفة ونصوص الشريعة وأسس استنطاقها وتأويلها وليكتسب به مشروعا اندماجيا جامعا بين سائر الأديان على مبدأ (وحدة وجود) الذي يتلقى كشوفه وشهوده عن طريق الاتصال المباشر بمصدر الوحي والإلهام بلا واسطة وكأنه يؤكد اختصاصه بنبوة خارقة.
وربما كان نشوء علم الكلام واتساع رقعته نتيجة اختلاط المسلمين بأجناس وأعراق وثقافات وفلسفات أخرى باعثا كبيرا على فتح أبواب العلم والشريعة على العلوم العقلية والوجدانية التي كانت تجوب دوائر العلم التابعة للأديان الأخرى بحكم وظيفة هذا العلم التي انحصرت في بادئ الأمر في رد الشبهات واثبات عقائد المسلمين . ولأن ولادة هذه الوظيفة كانت بحاجة إلى منهج عقلي جدلي قادر على إلزام الخصم بما الزم به نفسه من براهين فلسفية عقلية حتى يصل في المنتهى إلى غايته ومقاصده الدفاعية ؛ كان على علماء الكلام اتخاذ نفس منهج الخصم ، فقلد المتكلمون منهج خصومهم الفلاسفة واستخدموا أسلحتهم ووسائلهم في الجدل لإثبات العقائد بالبراهين العقلية ، وتبنوا بعض الآراء والنظريات والمصطلحات الفلسفية الأجنبية المقبولة عقلا في إثبات حججهم ، فكان ذلك بداية ولوجهم في الطريقة العلمية الخاطئة ، الأمر الذي أفقد علم الكلام خصائصه الأولى التي نشأ عليها كعلم إسلامي خالص مميز ظهر اثر تعاطي المسلمين مع الآيات المتشابهة في القرآن ودخولهم دائرة النزاع حول فكر الجبر والاختيار ووقفية أسماء الله وصفاته ، إضافة إلى النتائج السلبية التي أفضى إليها تلاعب السلطات وقوى النفوذ بمراكز القوى الاجتماعية عبر الاستفادة من ثقافة التشكيك في العقائد الثابتة . فزاد ذلك من شكوك فقهاء المسلمين في هذا اللون من الالتقاط والخلط المعرفي الذي برز فيه أول من برز في القرن الثاني الهجري الحسن البصري ومن تبعه من فرق قدرية ومرجئة .
وقد ناوش أئمة أهل البيت الأطهار (عليهم السلام) هؤلاء المشككين والفلاسفة، وحاربوا تكلفهم وقياسهم ودعواهم بما لا يمكن للعقول إدراكه واستيعابه أو بما هو خارج وظيفة العقل ، كالتكلم في ذات الله والجدل في صفاته وأسمائه بلا علم ، والتفلسف بطرق النصارى واليهود والمجوس الفرس واليونان .
لقد عد المسلمون المتكلمون أنفسهم فريقا مناوئا لغيرهم من أصحاب الطرق الفلسفية والبدع والزندقة ، ولكنهم تأثروا بهم فكرا ومنهجا وسلوكا مع تقدم الأزمان حتى قال القائل بأن للمسلمين فلسفة اشتقت مما لحق بعلم الكلام من مناهج ونظريات وافدة . وكان أول من ترك الآثار الفلسفية واضحة وأشاعها هم الأمويون وعلى رأسهم أبو سفيان الذي ذكر بأنه أول من اعتنق (الغنوصية) في الإسلام ، ثم تبعه على ذلك معاوية ابنه الذي يعد أول من أثار فكر الجبر في الإسلام لأسباب سياسية وتفاعل مع فلاسفة بلاد البحر المتوسط واعتنق نظامهم السياسي والإداري . وتبعهما خالد بن يزيد بن معاوية في محاولاته المكثفة والدءوبة لنشر الفلسفات بين المسلمين عبر دعم وتشجيع ترجمة المؤلفات النصرانية اليونانية لمعالجة الشكوك الواردة في فكرة الجبر الأموي التي أشاعها جده معاوية بين المسلمين آنذاك.
وقد غذى مسيرة الفكر الإسلامي المتبني للفلسفة عدد من المدارس الفلسفية الرئيسية والمهمة ، من نحو (مدرسة جنديسابرور) الفارسية المتفاعلة مع ثقافات اليونان ، إضافة إلى (مدرسة الإسكندرية) التي اجتمعت فيها ديانة النصرانية والفلسفة اليونانية فتوافقتا على تشكيل خليط ديني خطير جدا ترك بالغ الأثر على ثقافة المسلمين ومعارفهم بعد توالي ترجمات مؤلفاتهم إلى اللغة العربية على وجه الخصوص ولكون هذه المدرسة فريدة في نوعها حيث كانت الجهة العلمية الوحيدة التي شكلت مرتعا لعلوم اليونان وميراثه الفكري بعد تهاوي مملكة الإسكندر .
وكانت أخطر نظرية تلقاها المسلمون من بين النظريات التي بعثتها الإفلاطونية الجديدة على يد أفلوطين في مدرسة الإسكندرية هي "نظرية الفيض" التي عرفت بسعيها لبناء قانون قادر على تفسير العلاقة القائمة بين الخالق والمخلوق و"تعتبر إطارا فلسفيا لسائر الأفكار الإفلاطونية الجديدة ، وهي في ذات الوقت تعتبر الحجر الأساسي لبناء الفلسفة بين فلاسفة المسلمين 1.
وقد نشأ على اثر هذه النظرية الفلسفية مؤلفون فلاسفة في بلاد المسلمين كالفيلسوف العربي يعقوب الكندي الذي تبنى فلسفة أرسطو ومشى على طريقته كل من الفارابي المتوفى في سنة (339هـ) ، وابن سينا المتوفى في سنة (428هـ) ، ومحمد الرازي الذي تبنى فلسفة أفلاطون بشكل جلي وصريح برغم علمه بتشريع أفلاطون للواط وعبادة الأوثان . وتبنى محمد الفارابي خليطا من فلسفة أفلاطون وأرسطو وشرح أفلوطين ونظريته في الفيض ، واعتبر أبو علي حسين ابن سينا اشهر الفلاسفة في بلاد فارس وبلاد المسيحيين حيث تبنى نظرية أستاذه الفارابي في الفيض وثبت فكرة (إسلامية ويونانية وفارسية وهندية) علم الفلسفة من خلال استخدامه النص الديني وخليط من الفلسفات في شرح نظرياته ، وألف كتاب (الشفاء) الذي لاقى رواجا بين المسلمين وغير المسلمين وترك بصماته واضحة جلية على مسار النظريات الفلسفية وروادها "واحتوت فلسفته على عناصر إشراقية لا ريب في أثرها البالغ على السهروردي ، ولأنه اتصل بالإسماعيلية ودرس على يديها رسائل إخوان الصفا في وقت مبكر فقد استوحى من خلالها مبادئ الفلسفة الإشراقية المتمثلة في أفكار فيثاغورث والرواقيين مضافا إلى أن مدرسة الإفلاطونية الجديدة بذاتها مشبعة بمبادئ إشراقية ، ولا يمكن اعتبار ابن سينا ممثلا للفلسفة المشائية كما كانت عند أرسطو . وربما كان اسم كتابه (منطق المشرقيين) يدل على أنه يعبر عن شروح أهل المشرق سواء في بغداد أو جنديسابور القريبة من بغداد ، أو حتى في بلاد الفرس التي يعتبرها متميزة عن شروح المغلابيين ، وهم أهل اليونان والإسكندرية ، إذ عليها طابع الشرق الذي ينزع إلى حال الإشراق"2 . وربما كانت المواجهة حامية حين نشأت بين فقهاء المسلمين والفلاسفة وعبرت عن مدى التباين الصريح بين المدرستين ، فكان أشهرها ما جاء به أبو حامد الغزالي (450-505هـ) فقيه اتجاه الخلافة من مؤلف أطلق عليه اسم (تهافت الفلاسفة) وكان عبارة عن ردود نصية مؤسسة على صوفية متخذة من المنهج الوجداني طريقا لرد الشبهات ومعرفة حقائق الأشياء إضافة إلى كونها مخطئة للعقل ، فما كان من الفيلسوف ابن رشد(520- 595هـ) إلا أن رد صوفية الغزالي في مؤلفه (تهافت التهافت) .
وأما الفيلسوف شهاب الدين السهروردي الذي قتل في عام (588هـ) بمدينة حلب فقد استخلص لنفسه من كل الفلسفات نظرياته ووافقها مع تصورات الصوفية فكانت الخلاصة أول جمع بين المنهج العقلي الفلسفي ومنهج التأمل الوجداني الذوقي الصوفي ، حيث يتوفر الأول عند الفلاسفة بينما توافر الآخر عند المتصوفة ، فآخى بين كشفه وشهوده وبين فكره المنهجي الواقعي ، وكان ذلك إيذانا بنشوء (فلسفة الإشراق) وفقا لمؤدى نظرية (الفيض الإلهي) القائلة بأن انعكاس النور الإلهي على الموجودات أعطاها وجودها الذي يمكن كشفه بواسطة التقرب لله تعالى بسلوك رياضي وجداني .
وهكذا كان السهروردي أقرب الفلاسفة إلى مثالية أفلاطون وذوق الصوفية على الأثر الفارسي المانوي . وربما كان هذا الميل الفلسفي نابعا من عجز شكل الفلسفة اليونانية الغالب على نظريات الفلاسفة المسلمين المتكلمين عن محاكاة الثقافة الإسلامية وتلبية متطلباتها ، ومحاولاتهم غير الموفقة في إسقاط مناهج الفلسفة الوافدة على نصوص الدين في إثبات العقائد ورد الشبهات . ويظهر ذلك من خلال تراجع بعض الفلاسفة عن نظرياتهم لصالح التصوف أو لصالح نظرية الفيض على منهج الفارابي الأقرب إلى الإشراق ونقض فلسفة أرسطو والأكثر إنتاجا على قمة "الفلسفة الإسلامية "منهج المشائين ، كما هو الحال بالنسبة لأبي حامد الغزالي في "تهافت الفلاسفة" و" المنقذ من الضلال" .
إن نظرية الفيض التي بلورها الفارابي عن مدرسة الإسكندرية وأفلوطينها وعبرت عن عجز وتكلف عقلي في شرح العلاقة بين الخالق والمخلوق قد فتحت آفاق الإشراق في بلاد فارس مع بداية القرن الخامس عشر ، فخلط بعض علماء المؤسسة التعليمية الدينية الشيعة عقائد الدين وعلم الكلام بالفلسفات والصوفيات ، فانتشرت الشروحات في هذه المؤسسة على كتب الفلسفة والتصوف، وراجت آراء ومؤلفات الفيلسوف الصوفي الخطير محي الدين ابن عربي ونظرياته ، حتى توثقت العلاقة بين الفلسفة والتصوف وذهب نقدهما أدراج الرياح فبرز على الأثر ما عرف بـ (العرفان) على شكل دين جديد له قواعده وطرقه وأسراره غير المنظورة ، وأصبح فرعا من فروع الفلسفة من حيث موضوعهما إلى جانب كونه وظيفة عملية من وظائف التصوف ، ولكنه يتفوق على الفلسفة في مبحث "وحدة الوجود" إلى القول "بوحدة الوجود والموجود " بلا استعراض للدليل في مباحثه لأنه يعتمد أساسا على الكشف والشهود الوجداني ، وربما أبقى العرفانيون الأدلة ومظاهرها حكرا على دائرة ضيقة تنحصر في علاقة خاصة بين المريد والمرشد وفي مراتب متقدمة على "الشريعة" و"الطريقة" تسمى "الحقيقة" . "فمن قال بالفيض ، كفيضان الحوض مما يستلزم السنخية ، أو أن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد ، أو أن بسيط الحقيقة كل الأشياء وليس بشيء منها – كما قال بعض الفلاسفة - لم يستدلوا عليها بدليل برهاني ، بل قد عرض الدليل على خلافها . أما انه من قبيل "الفيض" الذي زعموه فمن أين ؟ بل لو كان المخلوق من سنخ الخالق لزم وحدة الصفات وسائر الجهات وذلك مستحيل، لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد ، وبذلك ترتفع شبهة السنخية .
وأما "الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد"فغير تام في الواحد بالإرادة ، إذ ما ذكروه من الدليل آت في غير الإرادي ، فإنهم استدلوا له بأنه لو صدر من الواحد غير الواحد للزم صدور كل شيء عن كل شيء ، وهذا الدليل لا يأتي في الواحد بالإرادة كالله سبحانه وتعالى . وإما"بسيط الحقيقة " فذلك متوقف على وحدة حقيقة الوجود في الواجب والممكن ، وهو بحاجة إلى الدليل ، بينما الدليل على عدمه ، إذ "الوجود" كـ "الشيء" و"الكائن" وما أشبه ذلك من الألفاظ الأخرى التي تطلق على الله وعلى كل المخلوقات .. وحيث أن العقل - مضافا إلى الآيات والروايات الصريحة - يرى بالضرورة الأثنينية وعدم الوحدة للبراهين المتعددة ، فإذا فرض تمسكهم بما استظهروه من بعض الآيات أو الروايات مما هو قريب من قولهم ، فإنها تفسر بغيرها من الآيات والروايات والأدلة العقلية القطعية كما ذكره العلامة الحلي (قدس سره) بمناسبة في (كتاب) شرح التجريد"3 .
وقد أخذ عن فلسفة الإشراق بعد تبلورها في عصر متقدم السيد محمد باقر الميرداماد (ت1040هـ /1631م) الأستاذ في مدرسة أصفهان الفلسفية "وكان ينوه مثله "أستاذه السهروردي" بأن الفلسفة التي لا تؤدي إلى تجربة صوفية وتكوين روحي أصيل هي عبث وباطل ، وأن التجارب الصوفية التي لا يدعمها زاد فلسفي تنتهي بالوهم والضلال"4، وتبعه في ذلك تلميذه ملا صدرا محمد ابن إبراهيم ألقوامي الشيرازي (ت1050هـ -1640م) الذي ألف كتابه الشهير (الحكمة المتعالية) وأصبح عارفا بعد أن عشق الفلسفة على يد أستاذه الأول بهاء الدين العاملي (1547-1621م) .
واختلف ملا صدرا مع منهج السهروردي وفلسفته في أصالة الوجود حيث تبنى ملا صدرا الشيرازي أصالة الوجود بخلاف أصالة الماهية الرائجة عند الإشراقيين ، وأضاف على (الحكمة المتعالية) شكلا دينيا بما يمتلكه من إطلاع واسع جدا في الشريعة ومصادرها ، كما أضاف إلى حكمته منهجا فلسفيا عميق النظر لما كان يمتلكه من إطلاع واسع جدا أيضا في الفلسفات والأديان ومناهجها والتصوف وطرقه .
وقد ظهر ملا صدرا في كتاب (الحكمة المتعالية) وسائر نظرياته بعقل علمي واسع المعرفة في مجال منهج البحث والتحقيق ورغبة أكيدة في تطوير مجالات البحث الفلسفي بعد الاجترار المستمر بين علماء الفلسفة في إيران لنظرية الفيض بلا تطوير أو تجديد ، فكانت حكمته خليطا متكاملا بين الشريعة الإسلامية والمنهج الفلسفي والطريقة الصوفية في "طلب الحق بأسرار الكشف والشهود والعيان" التي بلورها وتفاعل معها في عزلته بين قرى قم المقدسة واستمر عليها 15 عاما بعد أن أصبح منبوذا بين علماء عصره في أصفهان وشيراز ، فكان "مدرسة واحدة فقط ، هي الدعوة إلى الجمع بين المشائية والإشراقية والإسلام ، هذه العناصر الثلاثة هي أعمدة أبحاثه ومنهجه العلمي في مؤلفاته"5. ولم يكن لملا صدرا أن يأخذ مجاله من النجاح في نظرياته الفلسفية الصوفية بين مدارس المؤسسة التعليمية الدينية آنذاك لولا حاكم فارس (ويردي خان) وابنه على عهد الدولة الصفوية الذي أنشأ له مدرسة في شيراز اسمها "مدرسة خان" وأيده وتبنى نظرياته الفلسفية الصوفية بدعم من الشاه عباس الصفوي حتى غدت هذه المدرسة بمستوى كلية تدرس علوما مختلفة كالفلك والفيزياء والكيمياء والرياضيات إلى جانب الفلسفة والعرفان.
وشاع صيت ملا صدرا بهذا التبني الرسمي ، وعرّف منهجه على أنه منهج عرفاني توفيقي مدعوم بقدرة عقلية هائلة في البحث ، وقاعدة معرفية واسعة في الفلسفة والتصوف و"إعجاب بالذات " كسبه في عزلته لأن الاعتقاد يذهب إلى أن "المشاهدة ، أي المكاشفة (Epoteia) تمنح صفة الألوهية وتجود بالحياة الأبدية كما في الصوفية الهيلنيستية" 6، إلا أن مثل هذا الأسلوب لم يكن في سائر الأديان والثقافات صالحا ومثمرا ، لأن نتائجه في الغالب كانت غير متوازنة وخلاف سيرة الخلق والبعث الديني ، وفيها الكثير من التكلف على حساب قدرات العقل البشري، وفيها حث على التمسك بالموروث المعرفي الباطني والجمود على مبانيه لما للكشف من تطابق مع هذا الموروث واستكانة لأسسه وقواعده ونظرياته ومعارفه ومؤداه في الإلهام والحس والتجربة ونتائج حركة العقل بين المعلوم والمجهول . إضافة إلى ذلك: أن هناك ممن آمن بوحدة الوجود على منهج ملا صدرا من القدامى والمعاصرين قد حبب بعض الفواحش ومارسها عمليا لسلوك عالم الغيب ، كتحليل الموسيقى وسماعها ودق الطبول في تشييع الجنائز وإجازة الرقص والعلاقات الشاذة بين المريد والمرشد ، وعشق الغلمان والالتذاذ الشديد بحسن صورهم إلى حد العشق "لتلطيف النفس وتنوير القلب" كما يشار إلى ذلك في مؤلف الإسفار لملا صدرا .
وعلى القول بأن عرفان ملا صدرا هو نتاج إيراني أصيل غير متأثر بالفلسفة أو التصوف ، فلا حقيقة لذلك مطلقا ، لأن نظرية "وحدة الوجود" التي ذهب إليها ملا صدرا هي مما كسبته شطحات المتصوفة في أسبانيا كابي يزيد البسطامي الخراساني التي عبر عنها بقوله (سبحاني ما أعظم شأني) ، وبقوله عن الله تعالى (رفعني مرة فأقامني بين يديه وقال لي: يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك ، فقلت: زينّي بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: رأيناك ، فتكون أنت ذلك ولا أكون أنا هناك" ، وكذلك حسين منصور الحلاج الذي عبر عنها بقوله "ليس في جبتي سوى الله" ، وكذلك محي الدين ابن عربي الذي عبر عنها بقوله "فالوحدة في الإيجاد والوجود والموجود لا يعقل ولا ينقل إلا في لا اله إلا هو" 7 . ويعد ابن عربي أول من بلور فكرة وحدة الوجود واستكمل فكرتها ونظمها وشرحها وفصلها وأسس عليها كل دروسه وأبحاثه ونظر في فروعها واستنتج نتائجها حتى نسبت إليه ، وهي أيضا مما ذهب إليه الفلاسفة المسلمون وأسسوه بالاقتباس عن الإفلاطونية الجديدة القابعة في الإسكندرية من قبل .
فأفلوطين مثلا كان يصور العالم ظلا لله تعالى وانعكاس لنوره ، والصوفيون كانوا يرجعون – كما يعتقدون - في سيرهم إلى الاتحاد بالخالق ، فهو العابد والمعبود ، والوجود والموجود (الممكن و الحادث) كله هو هو . وهذن نظرية تمحور حولها فكر العارف محي الدين ابن عربي وكانت خلاصة تصوفه الفلسفي . ولم يكن ملا صدرا إلا محييا ومجددا لنظرية ابن عربي ومؤيدا لها ومقعدا لها على النصوص الدينية ومثنيا على ابن عربي واجتهاده حسب مفهوم التصوف الفلسفي (العرفان) وقال فيها أن الممكنات بماهيتها هي اعتبارات وهمية ولا يمكن أن تكسب وجودها بإفاضة الغير لأنها مما ليست وجودا ولا موجودا في حد ذاتها "بل أن الموجود هو الوجود وأطواره وشؤونه وأنحاؤه" . ففي هذا القول نكران لأصالة الأشياء أو ماهيتها "ويبدو أن الذين أنكروا ذلك إنما فعلوا ذلك تخلصا من الجهل بكيفية الخلق ومعنى قدرة الله سبحانه وتعالى على خلق الأشياء بكلمة واحدة {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } يس82 . فتهربوا من ذلك بإنكار المخلوقات "8.
من هنا تمظهر العرفان بالغموض والسرية في سيره وسلوكه فضلا عن الكثير من ألفاظه ونظرياته إزاء وحدة الوجود . "إن مؤسسي التصوف الأوائل كثيرا ما تملكوا ناصية فن التعبير عن فكرة عميقة بكلمات موجزة . فهم كانوا يريدون لعباراتهم أن تكون مكثفة وذات صيغة أشبه ما تكون بالتعريف الذي نجده في الكتب العلمية ، بتارة ، صارمة كأنها حد سنان . ولكن في المقابل ، فقد ظل تفهم المحتوى الحقيقي لعباراتهم هذه أمرا ليس يسيرا دائما"9، فلجأ المتصوفة إلى الرمزية الحادة في ذلك واتخذوا من السرية في البوح بها في السلوك العملي طريقة بعد حادثة مقتل الحلاج وهروب البسطامي المتظاهر بالجنون خوفا من حكم القتل ، لكن عهد ابن عربي كان أكثر تحررا فتظاهر ابن عربي بهذه النظرية وعرف بها في بلاده وبلاد شتى ، وأما الغير من الفلاسفة المتصوفة الذين اتخذوا من الفلسفة نظرية والتصوف طريقة وسلوكا فقد صرحوا في جدلهم ومحاججتهم بـ"وحدة الوجود والموجود بمعنى الاتحاد التام بلا تمايز" أو "يكون متمايزا ولكنه هو هو" ، وجمعوا متناقضا في مصطلحاتهم ثم فسروه بـ"الوحدة في عين الكثرة" وهو ما ذهب إليه ملا صدرا في كتابه (الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة) المسمى بـ (الأسفار) .
وقد تأثر بالتصوف الفلسفي هذا كل من السيد البروجردي مرجع التقليد والميرزا مهدي الأصفهاني والسيد حسين القمي وهو مرجع أعلى من بعد أبي الحسن الأصفهاني ، ولكنهم توقفوا عنه وسعوا للخلاص منه عبر التوسل لأهل البيت (عليهم السلام) . وقيل في ذلك أيضا أن الميرزا الأصفهاني كان ينادي بوجدان خالص الإمام الثاني عشر المهدي بن الحسن العسكري الغائب (عجل الله تعالى فرجه الشريف) راجيا الإنقاذ والخلاص من أثر التصوف الفلسفي ، فنجحوا في تخليص أنفسهم والتجرد منه حتى صاروا من ألد الأعداء للفلسفة والتصوف والعرفان والفلاسفة والعرفاء والمتصوفة . وذكر أن البروجردي قد تمسك بموقف الشيخ المجلسي المناهض للفلسفة والعرفان ورفض الحواشي الفلسفية التي كتبها السيد الطباطبائي على كتابه (بحار الأنوار) ، وحرم البروجردي حلقات دروس السيد الطباطبائي في المؤسسة التعليمية الدينية في قم المقدسة.
وقد ظهرت أشكال عدة من المدارس التوفيقية بعد الجدل الكبير في شأن التداخل بين الفلسفة والعرفان ومصادر التشريع والمواد العلمية الأخرى . وكان من بين تلك المدارس ما أطلق عليه (المدرسة التفكيكية) التي نشأت في حوزة مدينة مشهد الإيرانية في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري . وقد حاولت هذه المدرسة إجراء مصالحة بين التيارات الفلسفية والعرفانية والمحافظة ورفع صاعق النزاع ، فتمظهرت بالاعتدال في مقابل تطرف منهجي الفلسفة العرفان والمتصارعين ، وعرضت نفسها مخلصا مثاليا يمثل حقيقة الإسلام ، وقضت بوجوب الفصل بين العلوم الثلاثة : العلوم الدينية وأعمدتها القرآن والسنة الشريفة ، الفلسفة ، والعرفان . على أن تبقى لكل مادة حصة في مناهج الدراسات الدينية في قم ومشهد واصفهان بشرط عدم التداخل . وتزعم هذه المدرسة شخصيات دينية في مشهد من بينهم: السيد موسى القزويني (1294-1353هـ) والشيخ رضا حكيمي (1354هـ) ، التي كان في ظنها إمكانية تحقيق هذا التفكيك ، لكن الوقائع أثبتت تطرف مريدي الفلسفة والعرفان في تأويل المناهج الدينية بصيغ مثبتة لمناهج علوم الفلسفة والعرفان وافكارهما ، فركبت مصادر التشريع وحمل العقل والنص ما لا يحتملان .
لقد ادعت هذه المذاهب امتلاكها مطلق الخبرات المعصومة في منهج التوفيق وصنفت ذاتها في خانة الفائزين في تطويع هذا المنهج لمصلحة مناهجها التي رأت فيها تمثيلا للحق بأجلى صوره . فالفلاسفة والعرفاء كابن رشد وابن سينا والسهروردي والفارابي والكندي وملا صدرا أنفسهم دعوا إلى مثل هذه المقاربة والمصالحة والتوفيق ، ولكن النتيجة لم تكن مخلصة ، وهكذا الأمر بالنسبة لمريديهم الذين أخضعوا (مدرسة التفكيك) والوساطة إلى مبضع النقد فقالوا بميلها وتطرفها إلى منهج علم الكلام على حساب منهجي الفلسفة والعرفان والحال أن علم الكلام – في نظر مدارس التفكيك والفلسفة والتصوف - قائم على بنية تحتية فلسفية خالصة!.
وقد رفضت المؤسسة التعليمية في كربلاء المقدسة والنجف الأشرف ومنعت وكافحت مدارس الفلسفة والتصوف الفلسفي (العرفان) لعقود عديدة ، وقد عرف في النجف الأشرف مدرسان في الفلسفة أطلق على أحدهما (الملا صدرا البادتكوبئي) والأخر كان السيد عباس خاتم والد الرئيس الإيراني السيد الخاتمي ، إضافة إلى الشيخ محمد حسين الأصفهاني الكمباني الغروي مدرس البحث الخارج وأستاذ الشيخ محمد رضا المظفر في الفلسفة .
وقد كتب الشيخ المظفر مقدمة لكتاب ملا صدرا (الأسفار) تأييدا وتشجيعا لدروس الفلسفة في المؤسسة التعليمية الدينية في النجف الأشرف ، ولكن الشيخ المظفر نفسه يشير في هذه المقدمة إلى أن أشياء نسبت لملا صدر فإذا ما صحت النسبة هذه فملا صدرا لا يخرج عن كونه كافرا . بينما خلت المؤسسة التعليمية الدينية في كربلاء من دراسة الفلسفة في مناهجها التعليمية . وذكر بأن بعض مدارس كربلاء فرضت شروطا لمنع تدريس الفلسفة بشكل مطلق تأسيسا على أموال وقف اشترطت مقدما منع تدريس الفلسفة وتوفير فرص لسكن دارسي هذه المادة.
- نبذ التصوف الفلسفي
يذهب القائلون بمعارضة الفلسفة والتصوف الفلسفي (العرفان) ورفض تدريسها كمادة علمية في المؤسسة التعليمية الدينية في أكثر مدارس قم وكربلاء والنجف وغيرها إلى أن مميز العرفان والفلسفة والتصوف عن غيرها من العلوم المقررة في المؤسسة التعليمية الدينية هو توافر نصوص دينية محرمة لها ونابذة لنظرياتها ومحرضة على محاربتها ، فضلا عن واقع منتسبيها وادعاءاتهم المتكررة بالألوهية والنبوة أو الولاية ، ونقضهم للكثير من الثوابت الدينية بلا دليل ، وسلوكهم المستخف بأحكام الشريعة ، وتباهيهم باختراق النصوص الدينية والتقدم عليها بادعاءات ليس للبشر قدرة على تحقيقها وتعقلها ، وتطاولهم على العقل البشري المحدود ، وتشبههم بالخالق وتشبيههم له بما نهى الشرع عن وصفه. فعن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) أنه قال: "أن رجـلا قـال لأمير المؤمنين علي (عليه السلام): هل تصف ربنا نزداد له حبا وبه معرفة ؟ فـقال فيما قال: عليك يا عبد اللّه بما دلك عليه القرآن من صفته , وتقدسك فيه الرسول من معرفته , فائتم به , واستضيء بنور هدايته , فإنما هي نعمة وحكمة أوتيتها , فخذ ما أوتيت , وكن من الشاكرين , وما كلفك الشيطان علمه , مما ليس عليك في الكتاب فرضه , ولا في سنة الرسول وأئمة الهداة أثره , فكل علمه إلى اللّه , ولا تقدر عليه عظمة اللّه . واعـلم يا عبد اللّه أن الراسخين في العلم , هم الذين أغناهم اللّه عن الاقتحام على السدود المضروبة دون الغيوب , إقرارا بجهل ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب , فقالوا: آمنا به كل من عند ربنا , وقـد مـدح اللّه اعـتـرافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما, وسمي تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخا "10.
ففي هذا الخطاب الشريف يكمن الطريق والمنهج الصحيح لمعرفة الله سبحانه وتعالى بعيدا عن التشبيه أو التجسيم أو التفلسف في ذاته ووحدانيته أو قول ما لا نص فيه في وصف الله سبحانه وتعالى . وليس في ذلك سد للعقول وإغلاق لها وإنما الابتعاد بها عن التكلف فيما يفوق طاقتها ومحدوديتها والنأي بها عما رفضه الراسخون في العلم من أهل البيت (عليهم السلام).
فهناك نصوص صريحة لأهل البيت (عليهم السلام) في رفض الفلسفة والتصوف معا . وقد روي عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنه قال لأبي هشام الجعفري: يا أبا هشام! سيأتي زمان على الناس وجوههم ضاحكة مستبشرة وقلوبهم مظلمة منكدرة ، السنة فيهم بدعة ، والبدعة فيهم سنة ، المؤمن بينهم محقر ، والفاسق بينهم موقر ، أمراؤهم جائرون ، وعلماؤهم في أبواب الظلمة سائرون ، أغنياؤهم يسرقون زاد الفقراء ، وأصاغرهم يتقدمون الكبراء ، كل جاهل عندهم خبير ، وكل محيل عندهم فقير ، لا يميزون بين المخلص والمرتاب ، ولا يعرفون الظأن من الذئاب ، علماؤهم شرار خلق الله على وجه الأرض ، لأنهم يميلون إلى الفلسفة والتصوف ، وأيم والله: أنهم من أهل العدوان والتحرف ، يبالغون في حب مخالفينا ، ويضلون شيعتنا وموالينا ، فإن نالوا منصبا لم يشبعوا ، وإن خذلوا عبدوا الله على الرياء ، ألا إنهم قطاع طريق المؤمنين والدعاة إلى نحلة الملحدين ، فمن أدركهم فليحذرهم وليضمن دينه وإيمانه منهم . ثم قال (عليه السلام): يا أبا هشام! هذا ما حدثني أبي عن آبائه عن جعفر بن محمد (عليه السلام) وهو من أسرارنا فاكتمه إلا عند أهله"11.
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) حين سأله رجل عن قوم ظهروا في ذلك الزمان يقال لهم الصوفية؟ قال: إنهم أعداؤنا ، فمن مال إليهم فهو منهم ويحشر معهم ، وسيكون أقوام ، يدعون حبنا ويميلون إليهم ويتشبهون بهم ، ويلقبون أنفسهم بلقبهم ، ويقولون أقوالهم ، ألا فمن مال إليهم فليس منا ، وإنا منه براء ، ومن أنكرهم ورد عليهم ، كان كمن جاهد الكفار بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)"12.
ويقول الإمام الرضا (عليه السلام): "لا يقول بالتصوف أحد إلا لخدعة أو ضلالة أو حماقة أما من سمى نفسه صوفيا للتقية فلا إثم عليه" 13.
وقال الإمام الصادق (عليه والسلام): "إنهم أعداؤنا فمن مال إليهم فهو منهم ويحشروا معهم وسيكون أقوام يدعون حبنا ويميلون إليهم ويتشبهون بهم ويلقبون أنفسهم بلقبهم وأقوالهم ألا فمن مال إليهم فليس منا وأنا منه براء ومن تنكر منهم ورد عليهم كان كمن جاهد الكفار بين يدي رسول الله" .. 14.
وروى الحسين بن أبي الخطاب ، قال: كنت مع أبي الحسن الهادي (عليه السلام) في مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري ، وكان بليغاً وله منزلة مرموقة عند الإمام (عليه السلام) وبينما نحن وقوف إذ دخل جماعة من الصوفية المسجد فجلسوا في جانب منه ، وأخذوا بالتهليل ، فالتفت الإمام إلى أصحابه فقال لهم: «لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخدّاعين فإنّهم حلفاء الشياطين ، ومخرّبو قواعد الدين ، يتزهّدون لإراحة الأجسام ، ويتهجّدون لصيد الأنعام ، يتجرّعون عمراً حتى يديخوا للايكاف حمراً ، لا يهللون إلاّ لغرور الناس ، ولا يقلّلون الغذاء إلاّ لملء العساس واختلاس قلب الدفناس ، يكلّمون الناس بإملائهم في الحبّ ، ويطرحونهم بإذلالهم في الجب ، أورادهم الرقص والتصدية ، وأذكارهم الترنّم والتغنية ، فلا يتبعهم إلاّ السفهاء ، ولا يعتقد بهم إلاّ الحمقاء ، فمن ذهب إلى زيارة أحدهم حياً أو ميتاً ، فكأنّما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان ، ومن أعان واحداً منهم فكـأنّما أعان معاوية ويزيد وأبا سفيان . فقال أحد أصحابه: وإن كان معترفاً بحقوقكم ؟ . فزجره الإمام وصاح به قائلاً: "دع ذا عنك ، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا ، أما تدري أنّهم أخسّ طوائف الصوفية ، والصوفية كلهم مخالفونا ، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا ، وإن هم إلاّ نصارى أو مجوس هذه الأمة ، أُولئك الذين يجتهدون في إطفاء نور الله بأفواههم ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون"15.
وقد أوضح آية الله المرعشي النجفي أحد رجال الدين الكبار من خريجي المؤسسة التعليمية في مدينة قم المقدسة حقيقة الفلسفة والتصوف الفلسفي ومفاهيمهما ومصادرهما وصفات روادهما ومريديهما ، بشكل يظهر شيوعهما في قم المقدسة ، فقال: "عندي أن مصيبة التصوف على الإسلام من أعظم المصائب ، تهدمت بها أركان وانثلم بنيانه وظهر لي بعد الفحص الأكيد والتجول في مضامير كلماتهم والوقوف على ما في خبايا مطالبهم والعثور على مخبياتهم بعد الاجتماع برؤساء فرقهم أن الداء سرى إلى الدين من رهبة النصارى فتلقاه جمع من العامة كالحسن البصري والشبلي ومعروف وطاووس والزهري وجنيد ونحوهم ثم سرى منهم إلى الشيعة حتى رقى شأنهم وعلت راياتهم بحيث ما أبقوا حجرا على حجر من أساس الدين ، أولوا نص الكتاب والسنة وخالفوا الأحكام الفطرية العقلية والتزموا بوحدة الوجود ، بل الموجود ، واخذ الوجهة في العبادة والمداومة على الأوراد المشحونة بالكفر والأباطيل التي لفقتها رؤساءهم والتزامهم بما يسمونه بالذكر الخفي القلبي شارعا من يمين القلب خاتما بيساره معبرا عنه بالسفر من الحق إلى الخلق تارة ، والتنزل من القوس الصعودي إلى النزولي أخرى . وبالعكس معبرا عنه بالسفر من الخلق إلى الحق والعروج من القوس النزولي أخرى . فيا لله من هذه الطامات ... ورأيت بعض من كان يدعي الفضل منهم يجعل بضاعة ترويج مسلكه أمثال ما يعزى إليهم (عليهم السلام) (لنا مع الله حالات فيها هو نحن ونحن هو) وما درى المسكين في العلم والتتبع والتثبت وضبط أن كتاب مصباح الشريعة وما يشبهه من الكتب المودعة فيها أمثال هذه المناكير مما لفقتها أيادي المتصوفة في الإعصار السالفة وأبقتها لنا تراثا ... ثم إن شيوع التصوف وبناء الخانقاهات كان في القرن الرابع حيث أن بعض المرشدين من أهل ذلك القرن لما رأوا تفنن المتكلمين في العقائد فاقتبسوا من فلسفة (فيثاغورث) وتابعيه في الإلهيات قواعد وانتزعوا من لاهوتيات أهل الكتاب والوثنيين جملا وألبسوها لباسا إسلاميا فجعلوها علما مخصوصا ميزوه بعلم التصوف أو الحقيقة أو الباطل أو الفقر أو الفناء أو الكشف أو الشهود ، وألفوا وصنفوا في ذلك كتبا ورسائل وكان الأمر كذلك إلى أن حل القرن الخامس وما يليه من القرون ، فقام بعض الدهاة في التصوف فرأوا مجالا رحبا وسيعا لأن يحوزوا بين الجهال مقاما شامخا كمقام النبوة ، بل الألوهية باسم الولاية والغوثية والقطبية بدعوى التصرف في الملكوت بالقوة القدسية ، فكيف بالناسوت فسعوا فلسفة التصوف بمقالات مبنية على مزخرف التأويلات والكشف الخيالي والأحلام والأوهام فألفوا الكتب المتضافرة الكثيرة ككتاب التعرف والدلالة والفصوص وشروحه والنفحات والرشحات والمكاشفات والإنسان الكامل والعوارف والمعارف والـتأويلات ونحوها من الزبر والأسفار الحشوة بحكايات مكتوبة وقضايا لا مفهوم لها البتة ... فلما راج متاعهم وذاع ذكرهم وراق سوقهم ، تشعبوا فرقا وشعوبا واغفلوا العوام والسفلة بالحديث الموضوع المفترى: (الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق) . عصمنا وإياكم من تسويلات نسجة العرفان وحيكت الفلسفة والتصوف وجعلنا وإياكم ممن أناخ المطية بأبواب بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يعرف سواهم آمين آمين "16
المصادر ---------- 1 - العرفان الإسلامي . السيد تقي المدرسي ص 83 2 - المصدر السابق . ص 100 3 - الفقه العقائد . السيد محمد الشيرازي . ص228-232 4 -الشيرازيون الثلاثة ومقالات أخرى . د عبد الكريم اليافي . 5 -الحكمة المتعالية ، ج2 . م (ل). 6 - التصوف الإسلامي .تورآندريه. ص186 7 -الفتوحات المكية . ابن عربي ج1. ص715. 8 - العرفان الإسلامي . ص210 9 - التصوف الإسلامي . تور آندريه . ص 158. 10 - محمد باقر المجلسي . بحار الأنوار . ج : 3 . باب : 9 . ح : 1 . ص : 257 11 - سفينة البحار . عباس القمي. ج2 ص 58 12 - المصدر السابق . ج2 ، ص57 13 - الإثنا عشرية في الرد على الصوفية . الحر العاملي . ص17 14 - سفينة البحار الشيخ عباس القمي . ج5 . ص198 15 -حديقة الشيعة للاردبيلي ص 602 - 603 . عن المرتضى الرازي في كتاب الفصول . وابن حمزة في كتاب الهادي إلى النجاة كلاهما عن الشيخ المفيد . وعنه في روضات الجنّات: 3/134 . 16 - العرفان الإسلامي . نقلا عن إحقاق الحق م1 . ص183-185
|