لا أمل إلا في مدافع القرى!
كريم المحروس
مُنِعَ صديقي من العودة إلى وطنه بعد هجرة منها لظروف سياسية وأمنية قاهرة خلف وراءه في البحرين على أثرها زوجته وأولاده بلا معيل يرعاهم. وبعد سبع سنوات من الصبر على بلاء بلاد المنفى ؛ ضاقت به الدنيا فكانت الطرفة واحدة من أهم وسائل الاسترخاء الذهني حتى كانت هذه عادة من عاداته المهيمنة على سلوكه اليومي من بعد العودة إلى الوطن.
وفي لقاء جمعني وإياه، طلب تداول آخر مستجدات البلاد كيما يتفاعل داخله بشعور مولد لطرفة جديدة يفسح بها مجلسنا. فبدأت الحديث بشيء من السخرية: صحافيان ـ أحدهما في الاعتبار أستاذ للآخر- يعلمان علم اليقين أن من مظاهر تخلف النظم السياسية انها لا تستجيب لحق المواطنة التامة إلا إذا تفاقمت أمامها المشكلات الداخلية واستعصت على الحل، وفقد المعارضون كل خياراتهم السياسية، واجتاحت أعمال "العنف" المدن والقرى ـ ولكنهما جحدا هذا الحقيقة التي استيقنتها كل قلوب المواطنين في البحرين ، وما انفكا يشتغلان بإدانة أعمال "العنف" التي تُسجل تباعا في مناطق الاحتجاج الشعبي، ويدعوان المواطنين إلى وجوب المعالجة السلمية من خلال استغلال فرص الانفراج المتاحة، لكونها فرصا منتجة وتتسع لها آذان صاغية عند أصحاب القرار السياسي! .
وكلما ورد خبر لحادثة حرق "تايرات" أو خروج مسيرة احتجاج مرخصة أو غير مرخصة ؛ سجل هذان الصحافيان عمودين يشم منهما رائحة دخان لمدفع بعيد المدى من فرط شدة ألفاظ الفعل والمفعول والوصف المستخدمة في بنائهما الصحافي، حتى علق مواطن سجل اشتراكا في صحف البحرين قائلا: "أنا أقرأ الصحف يوميا في مطبخ بيتي بعد فتح مراوح تصريف الأدخنة"!.
هذا هو ديدنهما منذ عشر سنوات تقريبا. فإذا ما سمعت بحادثة "حرق" أو تظاهر أو مواجهة مع قوات الآمن عند مدخل إحدى القرى؛ تتبادر إليك صورتاهما المتقدمة على رأس عموديهما.. لا شك انهما من جملة الصحافيين "الأبطال" الذين مدّنوا جزيرتنا واخرجوا كل مفاهيم الحريات إلى واقع مثالي كنا نحلم به منذ 225 سنة .. وفي كل يوم تؤسس أعمدتهما لتحول أساسي استراتيجي وطني في جزيرتنا والناس من حولهما في دهشة من الأمر والحكومة في شغل شاغل "ما يلحقون"، حتى قال قائل منصف: ما حاجتنا لمعارضة وبرلمان مادامت الأعمدة الصحافية لها من الفعل ما تطمئن له القلوب وتهوي اليه الأفئدة!.
شاءت الصدف أن يكتبا في يوم واحد عمودين مهمين جدا لجريدتين مختلفتين. أولهما عالج بعموده الصحافي مسألة التجنيس السياسي وحجمها الفاحش، وكشَفَ هوية الجهات التي تقف خلفه، وحذر من سوء مخاطره على الصعيد الوطني، وطالب بمحاكمة المسؤولين عنه وبأبعاد كل المجنسين إلى أوطانهم. واما الصحافي الثاني فكتب عمودا صحافيا دعا فيه السلطات إلى التميز بين المذهبية والطائفية ، وحذرَ من الطائفية المفرطة في كل مؤسسات الدولة ومن اتساع رقعتها، وكشَفَ الجهات التي تقف خلف مشروع الحرب الطائفية وطالب بمحاكمتهم ، وأيد رصد موازنة خاصة لمعالجة آثار الطائفية على الصعيد الاجتماعي!.
في اليوم التالي لصدور الجريدتين، استدعي الصحافيان الوطنيان من قبل الجهة العليا الرسمية ذات العلاقة. وفي لقاءين منفصلين تسلم الصحافيان رسالتين لم يَشُك كل واحد منهما انها رسالة استقالة وطرد من العمل الصحافي لقاء ما كتبا من أعمدة متطرفة المضمون أنبأت عن ثقة زائدة في التحول السياسي الراهن لصالح الحريات العامة .
لم تكن المفاجأة عظمى: الأول قرأ رسالته فكانت عبارة عن تقدير وشكر موصولين بقرار سياسي يفيد إلغاء التجنيس ومحاكمة القائمين عليه وطرد المجنسين والاعتذار للشعب عما بدر من عمل شيطاني لا علم للقيادة السياسية به! . واما الثاني فقد تسلم رسالة تقدمها شكر وتقدير موصولان بقرار سياسي يفيد منع التمييز الطائفي ومحاكمة القائمين على تنظيمه وترويجه إضافة إلى رصد موازنة خاصة لرفع كل الآثار السلبية على الصعيد السياسي والاجتماعي.. وكيف لا تصدر مثل هذه القرارات الحضارية جدا وارتكاب جرم التجنيس الفاحش والطائفية الحادة يعدان في عرف القانون الدولي فضلا عن القانون الوطني المحلي خيانة عظمى قد تصل أحكامها إلى الاستحقاق بالإعدام!.
فرح الصحافيان المخضرمان لأنهما أصبحا وفي الأيدي كنز ثمين ووثيقة سامية ستقلب أوضاع الجزيرة رأسا على عقب إذا ما عولجت من خلال نصوص العمودين القادمين المتميزين لهذين الصحفيين المبدعين! .. كانت ثقتهما في الأوضاع السياسية مثالية جدا ، ويعتقدان أن عمودا صحافيا يمكن له أن يغير أوضاع جزيرتنا إلى أحسن حال، فكيف بموقف سياسي صادر عن إحدى الجمعيات أو الشخصيات أو أحد أعضاء المجلس النيابي بشقيه الشورى والبرلمان .
ضحك صديقي بعد سماعه لهذا التصور الفقير البائس المستكين، فعلمت أن طرفة اختمرت جيدا روعه وحان وقت قطافها .. رد بفكرة أعقبها بطرفة حين قال: منذ 225 سنة ونحن نناضل بالسياسة ولم يستجب لنا.. تأسست العشرات من المنظمات السياسية لتشكل ألوانا من المعارضة وشهد لها القريب والبعيد بأمانة مقاصدها وسلامة وسائلها، ولم يستجب لنا.. وفي الماضي القريب اشتعلت ثلاث انتفاضات ساسية ولم يستجب لنا .. فهل لعمودين صحافيين من فعل ما ليس لفعل نضالنا السياسي .. أشك في ذلك! .. أما علمت بخلاف دب بين قريتين متجاورتين؟!.
اصبح الخلاف بين القريتين مزمنا حتى قرر زعيم القرية الشمالية حسم الصراع لصالح قريته بوسيلة مدمرة .. وفي سرية تامة صنع في "عريش" مزرعته مدفعا ضخما ودفع في ماسورته حشوة كبيرة أتبعها بقذيفة عظيمة، ثم وجه الفوهة صوب القرية الجنوبية وأعلن عن يوم يحتفل فيه كل أبناء القرية الشمالية بآخر لحظات الحسم.
اجتمع أهل القرية الشمالية كلهم في المزرعة بدعوة من زعيمهم العظيم وإذا بهم يجدون أمامهم مدفعا ضخما مصنوعا من "جدوع" نخل "خلاص"، فأخذ "حكماء" القرية بيد زعيمهم ليعينوه على كشف النتيجة الكارثية التي ستحيق بالقرية الجنوبية إن هو اقدم على إطلاق القذيفة عليها!.
تقدم زعيم القرية الشمالية باتجاه المدفع غير مبال بالأيدي المنشدة بالصدور على القلوب ..أشعل فتيل الصاعق على وقع طبول الحرب ورقصات حراس القرية.. وقعت الواقعة .. لم تتفجر القرية الجنوبية ولم تصب بأذى بحسب الخطة، ولكن تفجر مدفع "الجدوع" في نفسه على منصته فحرق "برستجات"القرية الشمالية وقتل كل أبنائها الحافين به إلا زعيمهم الذي صحا من غيبوبته ليرى رعاياه ضحايا مجزرين من حوله، فصرخ قائلا: "انتصرنا .. بل ..مدفعي هائل ، هذا هني سوى فينه جدي فكيف بالوضع في القرية الجنوبية، أكيد محاها عن آخرها من الوجود .. تحقق المراد !
يا أخي .. هذان الصحفيان ومن هم في حكمهم يشكلان بأعمدتهما انتصارا لمدافع خشبية من سنخ مدفع زعيم القرية الشمالية .. هم يصنعون بأعمدتهم ومشاركاتهم الإعلامية درجة من الإحباط خطيرة جدا تعود على الناس بالضرر.. والأولى لهم الكتابة في الدندنات وصرعات الليوة.. هم يدينون أعمال" العنف" كما يدينها الجميع ، ولكن ما بالهم لا يرجعون إلى قلوبهم التي استيقنت بأن حكومتنا تفقه جيدا أهمية خيار العمل السياسي المعارض منذ قرن من الزمان لأنه يمثل مرآة التغيير إلى الأفضل، ولكنها ـ كما عودتنا ـ لا تستجيب إلا ببعض أحكام السياسة المشوهة بعد أن تشتعل جزيرتنا كلها بأعمال "العنف". فلماذا لا يعكس هؤلاء الصحفيين فوهة أعمدتهم صوب حكومتهم ، ذلك أولى لهم فأولى. |